ما بعد الغيث.. عنوان يحرك الحواس ويستحضر المشهد، وكما هو حال الفنون التي تحمل مضامين فلسفية، يأتي عنوان بينالي الدرعية للفنون المعاصرة بنسخته الثانية وكأنه عمل فني قائم بذاته. يعكس مفهوم الوفرة والنعمة وكأنه يقول لنا أتاكم الخير بعد انتظار عامين. ما بين ثمانية وتسعين فناناً من مختلف مدن العالم، وأكثر من مائة وسبعين عملاً فنياً تنوعت مابين الموسيقى والأفلام والفنون البصرية موزعةً على ست قاعات ضخمة، مع ورش العمل والندوات الثقافية، والأعمال الفنية التفاعلية التي تجعل من المتلقي جزءاً من صناعة هذا الحدث الفني. أطمح من خلال مقالتي هذه أن أنقل تجربة زيارة المعرض ليعيشها القاريء ، ويعيد عيشها بشكلها الحي المباشر في زيارته القادمة.
تصف القيّمة الفنية «أوتي ميتا باور» البينالي بأنه رحلة ومساحة للتفاعل، وتنعكس هذه الفكرة على تقسيم وتخطيط خريطة المعرض التي تضمنت ستة مبانٍ نتنقل بينها وكأننا في رحلة نقوم من خلالها بزيارة ست مدن مختلفة ولكنها تنتمي لدولة واحدة وهي دولة الفن، يحمل المبنى الأول عنوان (القصص والسرديات التاريخية)، وهي غرفة الإبداع كما أسميها ومنذ أن تضع قدميك على باب هذه القاعة تستطيع أن تشم رائحة مابعد المطر وهي رائحة الطين المغمور بالماء، هذه الرائحة تبعث لديك شعور الوفرة وشعور النعمة والتجدد والتي تفتح عقلك وتجعلك مستعداً لأن تستقبل أي فكرة لتحولها إلى فكرة جديدة. وتضم القاعة مجموعةً من المواد التي استخدمها الفنانون أثناء قيامهم بإنتاج عملهم، وهي مجموعة من المواد لأربعة عشر عملاً، أما بقية الأعمال فتم عرضها على جهاز لوحي يشرح تسلسل العمل من الفكرة حتى البناء. وفي هذه القاعة نموذج للمواد التي استخدمتها الفنانة اليمينة سارة عبده وهي قوالب الصابون ونبات الكافور ومجموعة من البودرات الطبيعية وقماش خام وصابون خام قابل للذوبان، وهذه المكونات هي المواد البحثية التي تقدم للمتلقي فرصة التعرف على تاريخ العمل الفني وهيئته وشكله قبل صنعة ، وهذه المواد هي ما تبقى من العمل الفني والتي تعد بمثابة القطع الأثرية التي تجعلنا نتنبأ بشكل العمل ونتخيل هيكله البنائي. هذه القاعة تعد بمثابة المقدمة لهذا الحدث الفني، ومنها تتعرف على كل عمل سوف تقابله في رحلتك وتتفاعل معه، وكأنك تستعرض شريط ذكريات هذه الأعمال قبل التعرف عليها.
وتبدأ الرحلة الفعلية ونقطة الانطلاق من القاعة الثانية والتي تحمل عنوان (البيئات وعلاقات الكائنات)، وتتضمن هذه القاعة مجموعة من الأعمال الفنية، مابين التصوير الفوتوغرافي إلى الأعمال المعاصرة وفن الفيديو، والتي تعكس التراث الثقافي للبيئة من حولنا.
أما القاعة الثالثة والتي تحمل عنوان (الموروثات الحديثة وشاعرية المكان)، فتتضمن مجموعة من الأعمال التركيبية واللوحات المائية والمنسوجات والتي تعكس فكرة التحول من الزمن القديم إلى الزمن الحديث وتؤكد على فكرة الارتباط بالبيئة والعودة إلى الطبيعة. والقاعة الرابعة أتت بعنوان (الماء والمأوى) لتعكس أهمية عنصر الماء كأحد أهم المكونات في الطبيعة، حيث تتمحور الأعمال الفنية المعروضة في هذه القاعة عن فكرة الوفرة والحياة. والقاعة الخامسة حملت عنوان (المعرفة بالمواد والذكاء الروحاني)، حيث احتوت على مجموعة من الأعمال الفنية التي أساس بنائها ومادتها هي المواد الطبيعية الموجودة بالبيئة المحطية، كالكافور وخشب العرعر لتؤكد على الأهمية الكبيرة للبيئة وأنها مصدر أولي لإبداع الفنان.
أما القاعة الأخيرة وهي السادسة فقد حملت عنوان (الزمان والمكان) والتي شملت على مجموعة من الأعمال الفنية المعاصرة التركيبية والمعتمدة على التراث والإرث الحضاري والعمراني. أما المساحة الخارجية للمكان فقط أطلق عليها عنوان (حديقة الحكمة) وتتضمن هي مجموعة من الأعمال التركيبية في مساحة عرضٍ مفتوحٍ تسمح للمتلقي بالتجول في المكان واستشعار الهواء الطبيعي وانعكاس نور الشمس عليها، وهي آخر محطة يصل إليها المتلقي، وكأنه وصل إلى مرحلة الحكمة في الفن وهي حالة من السمو والارتقاء بالمشاعر التي تسمح له بالإنتاج بناءً على ما التقطه من شعور جمالي في المراحل السابقة.
وأحد الأعمال الفنية المعروضة هو عمل الفنان «أوتيرو-بايلوس» بعنوان مكتبة العمارة الترابية، وهو عمل فني معاصر ويعد نموذجاً لاتجاه «فن التراث» والذي يعتمد على مجموعة من المواد التي أنتجت في زمن قديم، ولم تعد تُنتج في وقتنا الحالي، كمادة أساسية مكونة للعمل الفني. وتكمن الإبداعية في هذا النوع من الفنون في مهارة الفنان في الربط بين القطع الأثرية من ناحيتي المعنى أو الاستخدام، ومن ثم خلق معنى جديد ومعاصر ويستدعي الجذور. وهنا يتعاون الفنان مع مجموعة من الفنانين السعوديين وخبراء التراث من خلال استعارة القطع التراثية المكونة للعمل وعمل مقابلات تحليلية. (قطع من التاريخ وحديث للتاريخ) وهي الفلسفة الفنية من وراء هذا العمل، الذي يجمع معاني تسع قطع تتمحور حول النظر والتأمل والجمال والرائحة واللحظة والرزق والمأوى والحياة والأمل. حيث تتحد المعاني لتكون معنى واحداً يعكس رؤية البينالي لهذه النسخة وهي لحظة الغيث، ولحظة النعمة والرضا، واستمتاعنا بالأمطار من خلال رؤيتها من الشباك واستشعار رائحتها وبركتها. مابين ماهو مرئي وماهو مفهوم ليأتي هذا العمل ليعكس أحد أنواع الاستعارة البصرية وهي السياقية، حيث السياق الفكري لترتيب القطع يقودنا إلى الهدف النهائي وهو مابعد الغيث.
إن بينالي الدرعية للفن المعاصر بنسخته الثانية يعد عملاً فنياً قائماً بذاته، مصدره تنوع الأعمال الفنية وفلسفته الفكرية تكمن في النفع الفني الذي يروي المتلقين وينبت فيهم الشعور الجمالي.
وإلى هنا تنتهي رحلتي الفنية حيث وجدت نفسي أمام مفترق طريقين، الأول هو العودة إلى المنزل بعد جولة سعيدة وندية، والثاني هو البقاء حتى نهاية اليوم وإغلاق المكان معهم. ولكن كمية الإبداع التي حملتها من جولتي أثقلت علي وجلعتني أعود إلى المنزل لأكتب هذه المقالة التي آمل أن تكون حافزاً لغيري لخوض هذه التجربة. وعند هذه النقطة إذا قررت زيارة المكان، لا تنس أن تأخذ مظلتك، لأن سيولاً من الإبداع الفني ستنهال عليك.
** **
- د. رحاب الغذامي