تعدّ كتابة التعب في الأدب تمثيلاً وإدراكاً للعالم والوجود، وفق رؤية الأديب ووجهة نظره وجهة اعتقاده، وهذا الإدراك ليس هو الواقع، بل الطريقة التي يحس بها المرء بالواقع، فهو صناعة لغوية خطابية، ومنبع للدلالات والمعاني المضمرة، وتجسيد لتجربة الإنسان في الزمن المعيش؛ ولهذا فهو يتطلب -غالباً- اللجوء إلى المجازات والاستعارات والتخييل؛ لصياغة الأحاسيس وإخراجها بصورة فنية إبداعية.
وخيرُ مَن يمثل هذا الضرب من الإبداع، هو ابن العميد (ت: 360هـ) أمير البيان العربي في القرن الرابع الهجري، وأكتب أهل عصره، وأحفظهم للغة والغريب، وأكثرهم توسعاً في النحو والعروض، واهتداءً إلى الاشتقاقات والاستعارات، وأعرفهم بشعراء الجاهلية والإسلام، يُضرب به المثل في البلاغة والفصاحة، مع حسن الترسل، وجزالة الألفاظ وسلاستها، وبراعة المعاني ونفاستها.
ويمتاز نثر ابن العميد كما يقول زكي مبارك: «بميزة عجيبة، هي إعزاز القلم، ورفعه إلى أشرف الدرجات؛ فإننا حين نقرأ نثره نجد أنفسنا أمام عظمة عقلية، يخر لها الجبابرة ساجدين، وهو حين يكتب لا يطالعك بفنه -كما كان يفعل معاصروه- وإنما يطالعك بقلبه وروحه وعقله، بحيث تبدو كل كلمة من كلماته، وكأنها قلب يخفق أو روح يثور». لقد أحسن د. زكي مبارك في وصف كتابة ابن العميد أيما إحسان؛ فنثر ابن العميد تمثيلٌ لتجاربه في المعيش اليومي، وطريقةٌ من طرائق صناعة المعنى في الأدب والفن؛ ولهذا كانت كتابة التعب في رسالته إلى أبي العلاء السروي في شهر رمضان تجسيداً لغوياً لآلام الذات المتلفظة وانفعالاتها المتعددة، وإعادة إنتاج التعب بالقول واللغة؛ بغية نقل تلك الأحاسيس للمتلقي، وفق التصورات التي تحكم حياة الأفراد والجماعات في ذلك العصر.
لقد كان ابن العميد -رحمه الله- يعتاده القولنج تارة، والنقرس أخرى، تسلمه هذه إلى هذه، وهذا ما جعله يستعين بالخطاب الترسلي الإخواني؛ لإعادة كتابة التعب، بوصفه تجربة إنسانية مشتركة، فكتابة التعب، هي كتابة أثر، وضرب من ضروب التفكير في المعيش اليومي.
وإذا أمعنا النظر في رسالة ابن العميد إلى أبي العلاء السروي أديب طبرستان في القرن الرابع، نجد أن الفضاء الذي كُتبت فيه الرسالة فضاء إخواني فني تخييلي، وقد وصف الثعالبي في (يتيمة الدهر) ذلك الفضاء الترسلي الإخواني، فقال: «وكان كلٌّ من أبي العلاء السروي، وأبي الحسن العلوي العباسي، وابن خلاد القاضي، وابن سمكة القمي، وأبي الحسين بن فارس، وأبي محمد بن هندو، يختص به ويداخله وينادمه حاضراً، ويكاتبه ويجاوبه ويهاديه نثراً ونظماً، ويقال: إن أحسن رسائله [أي: ابن العميد] الإخوانيات وما كاتب به أبا العلاء، لصدوره عن صدر مائل إليه، محب له، مناسب بالأدب إياه». إن هذا الوصف الدقيق لفضاء التخاطب الأدبي عمل ٌ قوليٌّ تداوليٌّ، يراعي مقتضيات مقام الترسل الإخواني، وسياقات التفاعل والتواصل بين الأدباء نثراً ونظماً، وبذلك تصبح الكتابة صناعة خطابية، وإنجازاً لقيمة الإنشاء الترسلي، وفق مقاصد الكاتب، وأغراض التخاطب القولي.
إن رسالة ابن العميد في شهر رمضان عملٌ قولي ٌّمتضمن، يسعى إلى تصوير حدث التعب لحظة إنشاء عمل الترسل، ونقل ذلك الشعور إلى القارئ بالقوة نفسها؛ للتأثير فيه وحمله على إنجاز عمل التمثيل بالقول، وفق أعراف الكتابة الإخوانية، ومقتضيات الترسل الأدبي في ذلك العصر، وهذا ما جعل صاحب (اليتيمة) ينجز عمل التأثير بالقول، وهو عمل الاستحسان إذ قال: «فصل من رسالة له إليه في شهر رمضان، وهو مما لم يسبق إليه».
يقول ابن العميد في رسالته إلى أبي العلاء السروي في شهر رمضان: «كتابي -جعلني الله فداك- وأنا في كدٍّ وتعبٍ، منذ فارقت شعبان، وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر من ألم الجوع ووقع الصوم»، بدأ ابن العميد رسالته بعملٍ قوليّ (الدعاء)، وهذا العملُ خاضعٌ لأعراف الكتابة الإخوانية في القرن الرابع الهجري، وهو في الوقت نفسه ينجز واقعاً باللغة، وينشئه لحظة القول؛ رغبةً في استمالة المتلقي وحمله على متابعة القراءة، وبعد عمل الدعاء، أنشأ ابن العميد عمل التلفظ بالقول باستعمال المشير المقامي (أنا) الدال على الذاتية، وهذا الضمير (أنا) يجعل القارئ أكثر تأثراً بانفعالات المترسل ومشاعره وأحاسيسه، وهو ضربٌ من ضروب اشتغال العقل السردي في العلوم العرفانية.
ونلاحظ في المقطع الترسلي السابق من رسالة ابن العميد كثرة الألفاظ الدالة على كتابة التعب (كدّ، تعب، جهد، نصب، العذاب، ألم، الجوع)، وهذا كله راجع إلى طريقة المترسل في كتابة التعب بوصفها خطاباً إنسانياً يُبنى ب المشترك اللغوي، وبالتمثلات الاجتماعية والثقافية التي تحكم حياة الفرد والجماعة.
وقد اتكأ ابن العميد في كتابة التعب على الانفعالات التخييلية المتأتية من الذاكرة الجماعية؛ لتجسيد تجربة التعب والألم في حواس المتلقي وعقله، يقول:» ومرتهن بتضاعف حرور، لو أن اللحم يصلى ببعضها غريضاً، أتى أصحابه، وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضب، ويصرف وجه الحرباء عن التحنق، ويزويه عن التبصر، يقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق»، إن هذه الصور الفنية تمثّلُ النظام العرفاني للذات المتلفظة في ذلك العصر، وهو تمثيلٌ مرتبط بالأحاسيس المركبة للذات المنفعلة لحظة إنشاء التخاطب القولي، وتأثيثٌ لفضاء مؤلم متعب، وهو فضاء الصحراء الملتهب حرارة وشدة.
وقد استعان ابن العميد بالطرز الذهنية المترسبة في ذاكرة الجماعة؛ لإدراك الشعور بالتعب إدراكاً لغوياً فنياً، يقول: «وممنوّ بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليالٍ كإبهام القطاة قصراً، ونوم كلا ولا قلة، وكسحو الطائر من ماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحرّ خفة»، ففي المقطع السابق تشبيهاتٌ متعددة، وهي مرتبطةٌ بالقياس التمثيلي؛ لإخراج كتابة التعب إخراجاً فنياً مؤثراً، فـ(يوم رمضان) مفرط في الطول، و(ليله) قصير مفرط في القصر، ونوم المترسل قصير متقطع، وهذا يدل على أن إدراك التعب مرتبطٌ بالشروط الاجتماعية والثقافية، والمحيط العرفاني للذات المتلفظة المنفعلة.
ويسأل ابن العميد ربه -عز وجل- أن «يقرب على القمر دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته، وينقص مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركة الطول من ساعاته، ويرد عليّ غرة شوال، فهي أسرّ الغرر عندي، وأقرها لعيني»، لقد كان هذا العمل القولي (الدعاء) تمثيلاً خطابياً لكتابة التعب، يتخذ من دورة الزمن سبيلاً إلى إدراك المعاني المضمرة في النفس المرهقة المتعبة المنفعلة.
ويدعو ابن العميد -تظرفاً- على هلال رمضان بالهزال الشديد، والكسوف الذي يستر نوره يقول: «ويعرض عليّ هلاله أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأبلى من أسير الهجر، ويسلط عليه الحور بعد الكور، ويرسل على رقاقته التي يغشى العيون ضوءها، ويحط من الأجسام نوءها، كلفاً يغمرها، وكسوفاً يسترها»، ففي هذا المقطع الترسلي يلجأ ابن العميد إلى وزن (أفعل)؛ لإنجاز أعمال قولية تأثيرية إقناعية، تهدف إلى تجسيد تجربة الكتابة الانفعالية عند المترسل، بوصفها تمثيلاً للمدركات الحسية، وصوراً ذهنية منجزة في مقام التخاطب القولي.
ويستطرد ابن العميد في تمنيه لهلال رمضان بأن يرسل الله عليه الأرضة، ويسلط عليه السوس والدود والفار والجراد والنمل والذر، ويصيّره من نجوم الرجم، يقول: «ويبعث عليه الأرضة، ويهدي إليه السوس، ويغري به الدود، ويبليه بالفار، ويخترمه بالجراد، ويبيده بالنمل، ويجتحفه بالذر، ويجعله من نجوم الرجم»، ففي هذا المقطع الترسلي صناعةٌ خطابيةٌ لمعاني الهلاك، وهذا العمل استعراضٌ لكفاية ابن العميد اللغوية، وقدرته البلاغية على تشقيق الكلام، وتوليد المعاني والصور؛ لاستحضار كتابة التعب في نفس المتلقي، وحمله على إدراك تجربة المترسل وانفعاله لحظة التخاطب القولي.
وختم ابن العميد رسالته في شهر رمضان بعمل إنجازي تأثيري، وهو عمل الدعاء؛ لإنشاء فضاء تواصلي ناجح، يقول: «وأستغفر الله -جل وجهه-مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمه، وأسأله صفحاً يفيضه، وعفواً يسيغه، وحالي بعد ما شكوته صالحة، وعلى ما تحب وتهوى جارية، ولله الحمد تقدست أسماؤه، والشكر»، إن هذا الاختتام إنجاز لعمل التأثير في القول، وهو الاستغفار من الذنب، وشكر المنعم المتفضل، وهذا راجع إلى فهم مخصوص لكتابة التعب في الخطاب الترسلي العربي القديم، فتمثيل الانفعالات وتصوير الأحاسيس طريقةٌ من طرائق صناعة المعنى في الترسل الأدبي، وفق مقامات التخاطب القولي، ومقتضيات السياق التداولي، وأعراف الكتابة الفنية، ومتطلبات النظام العرفاني المتحكم في حياة الفرد والجماعة.
وقد أورد ابن خلكان في (وفيات الأعيان) خبراً يكشف ما يحس به ابن العميد من التعب والألم والنصب، يقول: «وقال لسائل سأله: أيهما أصعب عليك وأشق [يعني: القولنج والنقرس]، قال: إذا عارضني النقرس، فكأني بين فكي سبع يمضغني، وإذا اعتراني القولنج، وددتُ لو استبدلت النقرس عنه، وقال: إنه رأى أكاراً في بستان يأكل خبزاً ببصل ولبن، وقد أمعن منه، فقال: وددتُ لو كنتُ كهذا الأكار آكل ما أشتهي»، وقد علّق ابن خلكان على هذا الخبر بقوله: «قلتُ: وهذه شيمة الدنيا، قلّ أن تصفو من الشوائب».
رحم الله الأستاذ الرئيس ابن العميد، فقد كان واحد العصر في الكتابة، وجميع أدوات الرياسة، وآلات الوزارة، والضارب بالآداب بالسهام الفائزة، والآخذ من العلوم بالأطراف القوية، ونسأل الله الكريم أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح العمل، وكل عام وأنتم بخير.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010