قُتل الشاعر الجاهلي طَرَفَةُ بن العبد شابًا، فقد جاء في الروايات أنه مات وهو ابن ستٍ وعشرين سنة فقط، ولذلك لم يصلنا الكثير من شعره لقصر عمره، ولكن مع ذلك كانت له قصيدة تصنّف من أوائل المعلقات الشعرية، والتي مطلعها:
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
تَلُوْحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
وهي قصيدة عظيمة جاء فيها العديد من الأبيات المشهورة التي سارت بها الركبان، وجرت مجرى المثل والحكمة حتى يومنا هذا، ومنها قوله:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ
وكذلك قوله:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا
وَيَأْتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
وفي هذه المعلقة العظيمة وصف طرفة الناقة بأكثر من ثلث عدد أبيات المعلقة البالغة مئة وأربعة أبيات، وكان وصفًا عجيبًا يُعد من أجمل الوصف الجاهلي للناقة وللإبل التي لازمتهم في حياتهم تلك ومشقتها.
لكن في أوائل أبيات المعلقة، وتحديدًا من البيت الثالث؛ جاءت ثلاثة أبيات متوالية عجيبة، وهذه الأبيات الثلاثة بالإضافة لبيت رابع في وسط المعلقة لا يجب أن تمر علينا مرور الكرام، بل يجب أن ندرسها ونتمعنها ونتوغل فيها كثيرًا، وأن نعيد لهذا الشاب العربي القتيل، ولتجربته الشعرية القصيرة وعمره القصير، اعتباره من الإعجاب والإشادة والإكبار، به وببراعته الشعرية، وبوصفه العجيب، وبأسبقيته المتقدمة في وصف الجمل بالسفينة، ومن ثم تسببه بإطلاق لقب سفينة الصحراء على الجمل، وذلك لِما أتى به في معلقته من وصف عجيب وقِرانٍ متفرد ومُبهر بين هاتين الوسيلتين المختلفتين حتى في بيئة كلٍ منهما، فكلاهما مختلف عن بيئة الآخر، ولا مصادفة بينهما.
يقول طرفة في بيت معلقته الثالث، وهو أول هذه الأبيات الأربعة العجيبة:
كَأَنَّ حُدُوجَ المَالِكِيَّةِ غُدْوَةً
خَلَايَا سَفِيْنٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ
والحدوج هي مراكب النساء فوق الإبل واحدها حِدْجٌ وحِدَاجَة، والمالكية من بني مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وهم أخوال طرفة (قوم المتلمِّس خاله)، والخلايا قال الأصمعي: السُّفُنُ العظام، والنواصف: مجاري الماء، ودَدٌ: اسم مكان. فهو يُشبِّه المالكية في مراكب النساء فوق الإبل وقت الغداة بالسُّفن العظام التي تجري في الماء. ويضيف في البيت الذي يليه:
عَدَوْلِيَّةٌ أَو مِن سَفِيْنِ ابنِ يَامِنٍ
يَجُورُ بِهَا المَلَّاحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي
والعَدَولية: جزيرة من جزائر البحر يقال لها: عَدَوْلى قرب جزيرة أُوَال (كما ذكر الأنباري في شرحه للمعلقة)، وأُوال: هي جزيرة البحرين، وهو الاسم القديم للبحرين الجزيرة، وقيل: العدولية منسوبة لقوم يسكنون هَجَر (الأحساء) وابن يامن: ملّاح من أهل هَجَر (كما يذكر الأنباري).
أي أن هذه السفينة عدولية أو من سفن ابن يامن الملّاح يعدل بها ملاحها ويميل تارة وتارة يهتدي للقصد. ثم يضيف طرفة في البيت الذي يليه:
يَشُقُّ حَبَابَ المَاءِ حَيزُومُها بِهَا
كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُفَايِلُ بِاليَدِ
أي يشق حيزومها حباب الماء، والحيزوم: الصدر وهنا: صدر السفينة، والحَبَاب: النفّاخات التي فوق الماء، وقيل: هي الأمواج، ومعنى «المُفَايِل»: الذي يلعب لعبة للصبيان يقال لها «المفايلة»، وهي تراب يكوّمونه ويخبئون خبيًّا، ثم يشق المُفَايل تلك الكومة ويقسمها قسمين بيده، ثم يقول: في أي الجانبين خبأت؟ فإن أصاب ظفر.
فهو يشبّه سير هذه السفينة وهي تشق حباب الماء بالمُفايل الذي يقسم التُّرب بيده.
كما أن طرفة يقول في بيتٍ جاء في وسط القصيدة بعيدًا عن تسلسل الأبيات الثلاثة الآنفة الذكر، معيدًا في هذا البيت تشبيه الناقة بالسفينة، ولكن بوصفٍ أكثر تفصيلًا هذه المرة:
وَأَتْلَعُ نَهَّاضٌ إِذَا صَعَّدَتْ بِهِ
كَسُكَّانِ بُوصِيٍّ بِدِجْلَةَ مُصْعِدِ
والأتلع: الطويل المُشْرِف، ويعني عنق الناقة، ونهَّاض أي: ينهض في السير ويرتفع، وصَعَّدَتْ به أي: رفعته في السماء، السُكَّان: خشبة طويلة في مؤخر السفينة التي بها تُعَدَّل، والبُوصي: السفينة وهو فارسي معرَّب. والناقة لها نوعان من السير؛ إذا ارتفعت في سيرها رفعت رأسها، وإذا نزلت مدَّت عنقها، فشبّه عنق الناقة في طوله وارتفاعه في السماء بسُكّان السفينة المُصعِد المرتفع الطويل.
ولعل طرفة بن العبد أول من انتبه لهذا الأمر وشبّه الجمل بالسفينة؛ فله قصب السبق في ذلك التشبيه الفريد، فطرفة شبّه الناقة التي تشق رمال الصحراء في سيرها، بالسفينة التي تشق عباب الماء، وطابق بين وصف الناقة وهي تسير في الرمال، بالسفينة التي تسير في البحر، وشبّه عنق الناقة وهي مُصعدة به بسُكَّان السفينة المُصْعِد. فطابق بين الناقة والسفينة في السير، وفي الحالتين تكونان (السفينة والجمل) طوقًا للنجاة من هذين المحيطين المُهلِكين: البحر والبيداء. فلقد رأى طرفة السفن في الأنهار والبحار، حيث إنه ذهب وارتحل كثيرًا، وذهب للعراق ربما غير مرة، منها رحلته الأخيرة إلى عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة في العراق، الرحلة التي كان في نهايتها حتفه، ومؤكد أنه رأى السفن في أنهار العراق غير مرة، في دجلة التي يذكرها ويذكر السفن تجوبها في معلقته، وفي الفرات التي عليها الحيرة عاصمة المناذرة، كما أن طرفة من أهل البحرين، والبحرين هو الاسم القديم لإقليم الأحساء أو ما يسمى المنطقة الشرقية حاليًا في المملكة العربية السعودية، ولا بد أنه رأى السفن في البحر في مياه الخليج العربي، التي تطل عليه شواطئ إقليم البحرين (هَجَر).
لذلك فعندما نظم طرفة هذه الأبيات في معلقته قرن بين الصورتين، الناقة والسفينة، فكانت أبياته التي شبّه بها الناقة بالسفينة في العديد من الأوصاف المتشابهة بينهما منطلقًا لوصف الجمل أو الناقة بسفينة الصحراء فيما بعد، وتلقيب الجمل بسفينة الصحراء، وربما من هذه البداية التي قدحها طرفة في معلقته، وتوصّله لهذا التشبيه العجيب والمتفرّد بين الناقة والسفينة – لقلة معرفة البدوي بالسفن والبحر حينها- أتى تلقيب الجمل في الثقافة العربية بسفينة الصحراء؛ وذلك بسبب هذا القَرْنِ العجيب بين الصورتين في بيئة جاهلية يغلب عليها البداوة، وبسبب هذه الصور الفريدة التي أتى بها طرفة، من حيث التشابه الكبير بينهما في السير والحركة والوصف وهدف النجاة لكليهما من مهلكة البحر والصحراء، تلك الأوصاف والتشبيهات التي خلَّدها طرفة في معلقته التي سارت بها الركبان والأضعان، وجعل منها الجمل رمزًا للنجاة من الصحراء كالسفينة مع البحر، وطابق بين الجمل والسفينة وماثل، تشبيهًا ووصفًا وتفصيلًا، حتى أصبح الجمل بعدها وبسببها «سفينة الصحراء».
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد