رواية «الطريدة لا تزال في الحقل» هي آخر عمل للروائي السعودي محمد المزيني، وصدرت في نهاية عام 2023م عن دار «الانتشار العربي». تقع في (212 صفحة) كتبت في قالب جديد وتقنية مختلفة تضاف إلى تجربة المزيني الروائية وتعد تحولاً جديداً في تجربة المزيني السردية، قسمت إلى ثلاثة قوالب سردية، كل قالب منها يحمل احداثا وازمنة مختلفة لعدد من شخصياتها الرئيسية، فالحبكة السردية في الرواية لا تعتمد على الطريقة السردية الواحدة المبتدئة بزمان ومكان وأحداث وشخصيات تنمو تباعاً مع صيرورة الأحداث وتراتبيتها المنطقية، بل يكمن اختلاف الحبكة السردية في تنوع فصولها المركبة، فالفصول المعنونة كتبت بما يشبه المدونات السردية الكلاسيكية، وتروي أحداث تكوين أهم الشخصيات التي أصبح لها دوراً فاعلاً ومؤثراً في الحداث اللاحقة، وثمة فصول أخرى بعنوان موحد وهو (أصل الحكاية) وتبدأ من عام 1984م ويقع فيها شرارة الحدث الأهم الذي أسس تباعاً للأحداث التفصيلية الأخرى في كل ما يرد تحت هذا العنوان المكرر، أما الفصول الأخرى التي تحمل رقماً فقد جاءت بلسان الراوي العليم لأحد أهم هذه الشخصيات في مونولوجات تفلسف حياة الترف المبني على الخداع والكذب والنفاق، تتناول الرواية بين طياتها التغيير والتحديث الكبير الذي انطلقت شرارته مع رؤية السعودية 2030 المبتدئة من تنظيف البلد كمرحلة اولى من سوسة الفساد، وقد تناولت القضية من خلال شخصياتها المحورية المتورطة بالفساد وكيف استطاعت تكوين ثروات طائلة من صفقات مشبوهة، وكيف تشكلت حياتها في أزمنة تمرحلت لتقع أخيراً كفرائس في مصيدة الترصد والملاحقة. وتناقش الرواية فكرة ارتباط الفساد الأخلاقي والمادي مع الثراء والجاه، وتُعرض هذه الفكرة عبر سلسلة الأحداث والمغامرات التي تواجه الشخصيات الرئيسة، وهي: «البطبوطي» وهو اسم مستعار للشخصية الرئيسية وابنه «سامي». وزوجته زهرة المتسيدة والمستبدة بقوة رجل الأعمال الكبير بديع الزمان الذي ورث أموالاً طائلة من تجارة والده زهير التاسي المنحدر من أصول بعيدة لا تمت إلى قبائل الجزيرة العربية، وتستلهم الرواية بعض سيمائها من حملة مكافحة الفساد في المملكة العربية السعودية كجزء من رؤية 2030م.
تبدأ أحداث الرواية بسرد خبر «توقيفات ومساءلات واسعة تشمل لمرموقين بتهم فساد»، وكان من بين المطلوبين بديع الزمان» ثم ينتقل السرد عبر قفزة بين الأزمنة والأمكنة ليعود إلى الماضي قبل التقاء «البطبوطي» بسيده. وبعدها تقفز القصة إلى المستقبل حيث يعيش الابن «سامي» مغامراته التي تبدأ في فِلّة العائلة الفارهة في أرقى أحياء باريس.
الانتقالات السينمائية بين الأزمنة والأمكنة سمة أساسية من سمات الرواية، وهي وسيلتها إلى سرد الأحداث الرئيسة، وسُخِّرت هذه القفزات غير التقليدية في جنس الرواية لإضفاء عامل التشويق على الأحداث؛ وهذا ما أعطى النص طابعًا خاصًا. وتميز العمل بلغته العربية المتقنة تُسهّل على القارئ الانغماس بعُمق في أحداثها. يظهر بطل الرواية «البطبوطي» الذي ساقه القدر البائس إلى أحضان بديع الزمان، وتحدث المفارقة يوم كان متجها لإتمام اقترانه بحبيبته في الطائف ليقع عراك عرضي خاضه مع عامل محطة على طريق الطائف أودى بحياة العامل كما وقع في مخيلته، أخذ طريقه إلى الصحراء هارباً من تهمة قد تودي بحياته غالى الموت قطع الصحراء لينتهي به الطريق إلى مخيم (بديع الزمان ) وهنا يبدأ التاريخ يكتب له حياة مختلفة بين أحضانه ليجد نفسه منغمساً في متاهات الفساد، وقد أصبح وسيلة يستخدمها بديع الزمان للانتقام من أعدائه. ولكي يضفي بديع الزمان على عامله البطبوطي صفة أخرى زوجه بمديرة أعماله ومستشارته وحافظة أسراره «زهرة»، الجشعة المتسلطة، لم تختلف معاملتها للبطبوطي عن معاملة سيدها بديع الزمان له، رزقا بطفلين هما «سهير» وسامي». وقد نشأ الطفلان وسط مجتمع فاسد لا خلاق له، ولا بوصلة سوى بوصلة المال وطرق الاستحواذ عليها، وكان الولدان وسيلة أيضاً للمراهنة بهما للتقرب من ذوي النفوذ، من خلال زيجات عبر عنها «سامي» قائلاً: «كم تمنيت لو لم أجئ إلى هذه الحياة لأنبت في أرض سبخة دهستها زهرة بجبروتها وطغيانها المطلقين (...) لم يكن لها من اسمها نصيب. لم تكن زهرةً قط، بل زقّوماً تجرعناه». سهير حرمت من حبها الأول واضطرت إلى الخيار الثاني الأقرب إلى نفسها وتزوجت بصديقها السويسري وانتقلت للعيش الأبدي في سويسرا، أما سامي الذي تورط بزيجات مشوهة غارقة بالشهوة والتطلب، أخيراً ارتطم بالحقيقة المرة، فهو أداة تتلاعب بها زهرة، العود الذي يعزف عليه تزجية لوقت فراغه، وصله بالعواد شوشة الذي لجأ إليه لإصلاح عوده الذي حطمته زهرة في محاولة منها لانتشاله من وحدته وانطوائه وحالة الاكتئاب التي يمر بها، أخيراً التقى بالفتاة السمراء (أثير بنت شوشة) ونمت بينهما علاقة حب نقية وصافية، فاتح أمه زهرة لتباركه بالزواج منها، فما كان منها إلا أن أخفت هذه الأسرة البسيطة، وكان فقده لحبيبته مصابه الأكبر الذي أركسه بالحزن وحالة اكتئاب سوداء، أذان الفجر داعب روحه ثم بدأيتعود على الصلاة، هناك تعرف على إمام المسجد وعلى شباب متدينين فتحوا له فضاء مختلفاً، وتجربة أخرى فرغته من سواد روحه، وعبر شبكة إرهابية، فتحت له نافذة أخرى لينظم إلى ميليشيات داعشية ويسافر إلى هناك، ولكنه أراد أن ينتقم من زهرة إذ قام باستخراج وثائق سرية تُدينها هي وشيخها إلى وسلمها إلى السلطات. كما دس رسالة في خزنة «زهرة» بعد أن أفرغها من محتوياتها يقول فيها: «أمي الشيطانة زهرة، كم هو صعب ومؤلم أن أراك شيطانة، كنت أتوخى أن تكوني لي أمًّا محبة، أو أن نكون لك أهم من المال، وأهم من الشيخ بديع الزمان (...) لقد تحققت من كل هذا الفساد في كل ما سلبته من هذه الخزنة، لا يهمني الذهب ولا الأموال التي سأنفقها على الفقراء والمحتاجين، ما يهمني هو الورق الذي سيدفنك بقية حياتك في العار والخزي والسجون المظلمة، أنت وشيخك الفاسد». زهرة جن جنونها عندما علمت بأنه التحق بداعش وبدأت إجراء اتصالات للبحث عنه، عثر عليه أخيراً في أحد مستشفيات إسطنبول لينقل لأحد المستشفيات الشعبية في الرياض بين الحياة والموت، ولم يستطع الأطباء أن يعيدوا إليه وعيه حتى زارته محبوبته المُنقذة «أثير» وهمست في أذنه اليمنى وغنّت له، وتدفقت عيناه بدموع ساخنة، انتبهت لها «أثير»، «عيونه تدمع» قالتها «أثير» بفرح، وفزعت «زهرة» متجهة نحوها، ابتسم الطبيب، هو يسمعنا، هذا مؤشر جيد» قال الطبيب، سألته: «يعني يا دكتور رجعت له حياته؟» بابتسامة أمل قال الطبيب «ربما إذا لزمته هذه الفتاة السمراء الجميلة». بعيون باكية توسلت «زهرة» وهي تكفكف دموع «أثير» أن تبقى معه. اختفى البطبوطي، عاد إلى منزله القديم في حي شعبي، وقد أثقله المرض، هنا عادت به الذاكرة قبل أن ينزلق في مصيدة بديع الزمان، عثر على روحه المفقودة. نهض «البطبوطي»، وهو يطوي المصحف ويضعه على المنضدة ويرحل إلى أين هذا؟ هذا ما سنعرفه مع تفاصيل دقيقة لحياة الترف داخل القصور المبنية على الثروات المسروقة».
** **
وفاء الصالح - كاتبة ومترجمة