فإن للمكتبات العلمية شأن عظيم في تاريخ الحضارات العلمية؛ لِمَا لها من أهمية كبيرة في حفظ العلم وتداوله على مر العصور والأزمان، وقد بذل الكثير من العلماء غاية جهدهم في جمع مكتبات لهم، ما بين مُقلٍّ ومُستكثر، وبلغ الشغف ببعضهم في تحصيل الكتب أن أصبح مضرب المثل في ضخامة مكتبته، وما تحوي عليه في جنباتها من مختلف مُصنَّفات العلوم والمعارف، وكانوا يبذلون وسعهم في الحفاظ عليها مُدَّة حياتهم؛ وقد أُفرد في هذا العديد من المُؤلَّفات قديمًا وحديثًا.
وما يستوقفنا الحديث عنه، هنا تلك الصور المأساوية التي تعرَّضت لها بعض تلك المكتبات في حياة أصحابها، أو بعد وفاتهم؛ حيث تعرَّض الكثير منها للتلف بواسطة الأَرَضَة، أو الضياع لأسباب مختلفة، منها ما يعود إلى الورثة، ممَّن لا يعرفون قيمتها ونفاستها؛ فقاموا -لجهلهم- ببيعها؛ فتفرَّقت بها أيادي الضياع هنا وهناك، وللأسف أنَّ بعض النُّسخ من تلك الكتب والمُؤلَّفات، كانت تُعدُّ من الفرائد التي لا ثاني لها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسوف أستعرض في هذه المقالة ما آل إليه بعض مكتبات علماء مكة على وجه الخصوص، وما حلَّ بالآلاف من تلك الكتب، التي كانت تضمُّها في خزائنهم، ولاسِيَّما وأنَّها تحتوي على العديد من مُؤلَّفات علماء مكة الكبار.
فمن أوائل هذه المكتبات التي يحزننا خبرُ انعدامها: مكتبةُ مُؤرِّخ مكة العظيم، الحافظ تقي الدين الفاسيِّ (ت: 832هـ)، والتي تولَّى الوصاية عليها بعد وفاته أخوه لأُمِّه، الخطيب أبي اليُمن النويريُّ، فكان يُعيرها للآفاقيين في شكل أجزاءٍ ناقصةٍ، حتى ضاع أكثرُها، وانعدمت كذلك جُلُّ مُؤلَّفاته؛ قال المُؤرِّخ النجم ابن فهد المكيُّ (ت: 885هـ): «ومُصنَّفات تقي الدين الفاسي كثيرة جدًّا، صارت جميعها كالعدم؛ لأنَّه أوقفها في مرض موته على طلبة العلم الشَّريف، واستثنى أهلَ مكة».
ومنها: مكتبة العلَّامة المُؤرِّخ قطب الدين بن محمد النهرواليِّ المكيِّ (ت: 990هـ)، والتي كانت تُعدُّ من أنفس المكتبات وأضخمها، إذ كانت تحتوي على ألفٍ وخمسمائة مُجلَّدٍ، والمُجلَّد الواحد قد يحتوي على عِدَّة كتب؛ وقد وصف العلَّامة الشوكانيُّ نفاسة ما في مكتبة العلَّامة النهرواليِّ بقوله: «كان يشتري نفائس الكتب ويبذلها لمَن يحتاجها، واجتمع عنده ما لم يجتمع عند غيره».
والمُحزن أنَّ هذه المكتبة النفيسة تعرَّضت لحريقٍ التَهَمَ كلَّ ما فيها من نفيس الكتب والمُؤلَّفات؛ وقد حكى لنا قصة مأساتها صاحبُها قطب الدين بن محمد النهرواليُّ في أحد مُؤلَّفاته، بقوله: «لقد توجَّهت ليلة الثلاثاء، تاسع عشر ربيع الأول، سنة تسع وخمسين وتسعمائة، إلى بركة ماجد، مع بعض الأصحاب للتَّنزُّه، فوقع الحريق في داري بمكة، لا أدري كيف وقع، غير أنَّه ابتدأ من القاعة التي بها أسبابي وكتبي، وكانت زُهاء ألفٍ وخمسمائة مُجلَّدٍ من نفائس الكتب التي ملكتها، وورثتُ بعضها عن أبي –رحمه الله– فذهبت كلُّها، وذهب جميع ما في البيت من جليل وحقير، ولم يسلم لي غير الثياب التي على بدني».
ولعلَّ من أقوى العوامل -أيضًا- التي أسهمت في ضياع الكثير من مُصنَّفات علماء مكة، حجبُها عن أهل العلم، وعدمُ تمكين العلماء من نسخها، أو إعارتها لهم؛ وفي هذا يحكي لنا المُؤرِّخ عبد الله ميرداد المكيُّ (ت: 1343هـ) قائلًا: «كان أبو بكر كغيره من أهالي البيوت القديمة بمكة؛ فقد حازوا الكتب الكثيرة المُعتبرة، ولاسِيَّما تآليف أهل مكة، كتآليف بيت الطبريِّ، وبيت الحطاب، والمفتي الشيخ محمد جار الله بن ظهيرة، وابنه المفتي الشيخ علي، والمُلَّا علي القاريِّ، والقطبيِّ، وبيت عَلَّان، والشيخ عبد الرحمن المرشديِّ، وابنه الشيخ حنيف الدين، والعفيف الكازرونيِّ، وبيت فروخ، وبيت عتاقي زاده، والبيريِّ، وبيت العجيميِّ، وبيت الريس، وبيت القلعيِّ، وبيت سنبل، وبيت الميرغنيِّ، والشيخ عبد الرحمن الفتنيِّ؛ وكانت رائجةً في زمانهم، ولا يضنُّون بها على أهلها.
أما الآن فقد دُثِرَتْ، ولم يَبْقَ منها إلا نَزْرٌ من جمٍّ؛ لحصول التصاريف فيها؛ وذلك بسبب بُخل ذُرِّيَّتهم؛ من عدم إعارتها لأهلها؛ لأجل القراءة فيها، أو نسخها؛ حتى تصيرَ منها نسخٌ عديدة.
أما بيت المفتي فقد أكلت الأَرَضَة كتبهم.
وأما بيت الميرغنيِّ، وبيت شمس، وبيت ميرداد؛ فقد أحرقت النارُ كتبهم؛ بسبب حريقٍ حصل عندهم.
وأما بيت الريس، وبيت الزرعة؛ فقد باعوا كتبهم على أهل الهند وأشباههم.
وكان يختلج في خاطري أنَّهم آثمون بسبب البُخل المذكور، ثم إنِّي رأيتُ العلَّامة الشيخ محمد الحفني في «حاشيته على الجامع الصغير»، عند حديث: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»()، تعرَّض لذلك؛ حيث قال: «ويدخل في كتمه منع إعارة الكتب».
فأنت ترى كيف آلت تلك المكتبات إلى الضياع والتلف؛ من الأَرَضَة، أو الحرائق، وبُخل أهلها في إعارتها؛ وهذا مخالفٌ لما ينبغي أن يكون عليه العالم، من بذل العلم للنَّاس وعدم كتمانه، بل إنَّ جماعة من العلماء قد ذهبوا إلى القول بوجوب إعارة الكتب لمَن هو أهله؛ فقد قال الإمام الحافظ سفيان الثوري (ت: 161هـ): «مَن بَخِل بعلمه ابتُلي بثلاث: إمَّا أن ينساه ولا يُحفظ، وإمَّا أن يموت ولا يُنتفع به، وإمَّا أن تذهب كتبُه».
ولهذا نجد أنَّ بعض العلماء قد صان مكتبته من عوادي الزمن؛ بما كانت تسخا به نفسه بإعارتها لأهل العلم وطلبته؛ لنَقْل نصوصٍ منها؛ إذ بهذا النقل تُحفظ معالم الكتاب إن فُقِد؛ أو لأجل نَسخ الكتاب كاملًا؛ وبذلك تنتشر نُسخ الكتاب ويُؤمن بقاؤه وعدم ضياعه؛ ومن الأمثلة على ذلك: العلَّامة الحسن بن محمد بن حمدون (ت: 562هـ)؛ كان -رحمه الله- جوادًا في إعارة كتبه، ومع ذلك لم يفقد كتابًا منها قطُّ؛ فقد قال عنه المُؤرِّخ ياقوت الحمويُّ (ت: 626هـ): «كان من المُحبِّين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها المُتقنة، وأُمَّهاتها المُعيَّنة، ما لم يحصل لكثير أحد... وكان مع اغتباطه بالكتب ومنافسته ومناقشته فيها، جوادًا بإعارتها؛ ولقد قال لي يومًا، وقد عجبتُ من مسارعته إلى إعارتها للطلبة: «ما بَخِلتُ بإعارة كتاب قطُّ، ولا أخذتُ عليه رهنًا؛ ولا أعلم أنِّي مع ذلك فقدتُ كتابًا في عارية قطُّ»، فقلتُ: الأعمال بالنِّيات، وخلوص نيتك في إعارتها لله حفظها عليك».
وها هو حافظ مكة ومُحدِّثها تقي الدين ابن فهد المكيُّ (ت: 871هـ)، كانت له مكتبةٌ كبيرةٌ يقصدها أهل العلم من أهل بلده والغرباء، ويُعيرها لهم بسماحة، كما قال ولده المؤرخ النجم ابن فهد (ت: 885هـ) بأنَّه: «اقتنى من الكتب الحِسَان والأصول، ما لم يُحصَ لأحدٍ من أهل بلده، وكان سَمْحَ العارية بها لأهل بلده وغيرهم من الغرباء، مَن عَرف ومَن لا يَعرف؛ وهذا شيءٌ لا يُعرف لأهل بلده؛ وأوقف كتبه على أولاده الذكور وأولادهم؛ لتستمرَّ العارية على عادتها؛ وليحصل له الثواب والأجر»()، وكانت مكتبته -رحمه الله- محطَّ أنظار العلماء والباحثين في ذلك الزمن، واستفاد منها جمعٌ كبيرٌ منهم، كالمُؤرِّخ تقي الفاسي المكيِّ (ت: 832هـ)، والمُؤرِّخ السخاويِّ (ت: 902هـ)، وابن الشَّمَّاع الحلبيِّ (ت: 936هـ)، وغيرهم.
ولاشكَّ أن بفَقْد الكتب وتلف المكتبات العلمية يفوت على النَّاس خيرٌ كثيرٌ، وبحفظ الكُتب يُحفظ العلم وينتشر ويُستفاد منه، وهذا من الأجور والحسنات المستمرِّة لصاحبها في حياته وبعد مماته، والتوفيق من الله سبحانه.
** **
- إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير