منذ أنهى الشاب حسن تعليمه الثانوي وطموحه يضع العراقيل تجاه الجامعات المحلية تلك التي درس فيها أفذاذ العلماء وفلتات المفكرين والمحققين ناشرين دفائن المخطوطات، ولكن سبحان من إليه النشور قد ولّى زمنهم وخلف من بعدهم خلف... ولمَ هذا التشعب والعناء لعله يفاتح عمدة القرية الشيخ عرباوي، ولكن هذا الأخير عراقيله تلف فكرة الابتعاث بأسلاك شائكة.
تتبدى الآن عقبة أخرى من عقبات الابتعاث في رأس حسن فالعمدة عنيد وأم حسن مالكة حق النقض لدى العمدة، ربنا يعطيك طولة العمر.
والعمدة في السنوات الأخيرة ليس على مايرام فبعد وفاة الحجة أم حسن ساءت حاله وكأنها كانت هي باب الرزق أو نسيت أن تضع مفتاحه في يد العمدة قبل مضيها إلى الدار الآخرة.
كان كل جلساء العمدة يهمهم بهذا الحديث على سبيل الشماتة والسخرية... عدا الحاج «زينهم» البلدي الأصيل الذي انتظر انصراف العمدة يوماً من جامع القرية فاعترضه مصافحاً ثم تمشى معه شاداً على يده ومتحدثاً بكل جدية وقوة..
ياعمدة ليك في الخير؟
العمدة :قول..
«المسكينة «فتوحة» وصيتها عليك وأنا بوصيك عليها أرملة وحيلتها من الدنيا البنت «زينات».
لم يستطع العمدة الاعتراض، وعلى ماذا يعترض، فقد صادر زينهم حقوق الاعتراض والاستفسار معاً، بطريقته الغريبة في تكرار الجمل الأخيرة من كلامه حتى انقطاع نفسه وانتفاخ أوداجه، هكذا كان زينهم يفلت يد العمدة ويمنعه من الحديث، حتى اختفى مغادراً خلف ضجيج الباعة وهو يردد:
حتجيك وصيتك.. حتجيك وصيتك..
حل المساء وأضاءت جبين فتوحة دار العمدة الكاسفة ولم ينتظر العمدة خفقة قلبه الثانية ففاتحها في الزواج بطريقته الفجة عندما تعترضه سحابة الأمل ليكون أول الواردين، كان يجاهد بعينيه ليرفع حاجبيه الغليظين، وتابع قائلاً، ولكِ كل أمانيك، «زينات» سوف تكمل تعليمها، نعم مثل بنت أم توفيق، وأسعى لها في زوج كفء وأدفع تكاليف زواجها بنفسي، ثم حدق فيها وتابع : وأنا الآن أخطبها لسيد فتيان الكفر كرهن لإثبات المصداقية.
سقط طرف فتوحة الناعس في حجرها ثم... ثم تم عقد قرانها مع العمدة.
فُتح باب غرفة أم حسن المغلق منذ وفاتها، وفتح قلب العمدة لساكنه الجديد على مصراعيه، وفتح في قلب حسن جرح كبير. فكانت فتوحة بحق أم الفتوح كما يدللها العمدة صباحاً عند انصراف حسن و زينات.
ضاق حسن ذرعاً بأسئلة زملاء المراهقة..
متى تخرج فيزا الابتعاث؟
بالسلامة أي بلد إن شاء الله؟
خلي بالك إيطاليا نشالين؟
حاصرته الأسئلة حتى دفعته يوماً لاقتحام مخدع العمدة صباحاً على غير العادة كان حسن قد وضع جميع ردود العمدة على الطاولة واستل لكل رفض، رداً قوياً وصارماً وحين تذوب الردود أمام صرخات العمدة الصارمة فعدة الهروب في مراكب المجهول تترنح فوق أمواج الإسكندرية..
والله ياحسن يبني إنت ابن حلال..
حسن: أكيد يابه.
وأيضاً مع هذا الاستقبال غير الاعتيادي حاول حسن ضبط وتيرة الصرامة على نفس هديرها، فلا تراجع ولا تنازل.
قال العمدة : يبني ليك في الخير؟
حسن : قول يابه
العمدة :زينات.. إيه رأيك فيها.
كان السؤال بمثابة تفعيل العديد من ملفات الفديو التي احتفظ بها حسن دون فتحها، وبإعادة تشغيلها مرت المشاهد تباعاً تجسد زينات بعيونها الواسعة الكحيلة وشعرها الفاحم الذي دائماً ما ترسم الخصلة المنسدلة منه على خدها الأيمن منظراً مربكاً، وإهابها الغض وخصرها النحيل الملقى على أوراكها الممتلئة إنها الجمال الذي طالما وصف بأنه العربي الأصيل، تسيل الحروف بين ثناياها دفاقة متشبعة بالحياة والقوة تأخذ النيل معك في وصف منطقها.
يقطع حسن هذه المشاهد اللذيذة..
أنا أفكر في الدراسة فقط.
العمدة : ح تدرس
حسن : أقصد البعثة
العمدة : ح تسافر
أراد حسن أن يعترض
ولكن العمدة تابع والبلد الذي تختاره أنت.
كانت زغاريد أم الفتوح تعلن، اتخاذ حسن قراراً جريئاً في حياته.
وضع حسن يد زينات تحت ذراعه كالوردة المنتزعة من بستانها، ومضى كلاهما من تحت أنظار العمدة وأم الفتوح.. استطاع العمدة بحيلته الخبيثة أن يحيد بيدقاً مقلقاً عن ساحته..
وبالمثل حيد حسن زينات عن طريقه، حال ملامسة أقدامهم مطار «جون كينيدي» الدولي.
ولكن رغم الاتفاق المبرم مع حسن لم تتوقع زينات سرعة التنفيذ، والسقوط المروع لهيبة العمدة في قلب حسن، لقد عولت تلك المسكينة على جمالها وحسن منطقها كثيراً، كانت مزهوة في المطار لمشاهد البشاعة المستشرية في فتيات الشعب الأمريكي، ولكن خاطرها تكسر وهي تردد» والضد يظهر حسنه الضد..»
كانت أيام الغربة تأكل من خدي زينات وليالي نيويورك الشاتية تستل من شعرها خصلة خصلة..
تقلب حسن في أحياء نيويورك مفتوناً بكل شيئ وكل شيئ يدخل إلى قلبه ينتقص أصلاً من أصوله الثابتة حتى تمم عشقه لأمريكا بفتاة تمثل لوحة إعلانية لأطباء التجميل، فاستحالت دمية بلاستيكية تفرح وتحزن، تأكل وتشرب، بل تنام وتستيقظ على ذات الملامح..
«ماجي» كانت ترى لها في حب حسن حقاً أصيلاً، إذ هو امتداد لحضارات الشرق الساحرة الموغلة في القدم، كان يفتنها فيه كل شيئ حتى اتصال العمدة صباح كل جمعة، بالطبع لم تلاحظ سباب العمدة الذي كان يخبو شيئاً فشيئاً تزامناً مع تصاعد حوالات حسن بالعملة الصعبة.
والغريب والمزعج معاً، ذلك السؤال البغيض الذي دائماً ما يثب من أعماقها، يباغت لحظاتها السعيدة، كيف أحبني حسن؟
حسن كان يعاني سؤالاً من عمق آخر، هل ستبقى على حبها لي حين ترى العمدة وأم الفتوح؟ وحين يلفها غبار القرية وتلفعها شمسنا الحارقة؟، هل أستطيع الحفاظ عليها حتى أخطو تلك الخطوة وأنا ممسك بيدها أمام زملاء الأمس وشباب القرية..
المهم والحقيقة الثابتة أنه سيدفع كل ما يملك حتى يعيش ذلك المشهد، مشهد الانتصار.
عاد حسن لأرض الوطن بصاعقته التي أفزعت عقلاء القرية وكانت مثالاً لتندرهم الذي دق مسماراً في رقبة العمدة مواجهاً لمسمار حسن الذي تدقه العملة الصعبة في جدار لسانه كل شهر.
صرخت أم الفتوح تحتضن زينات بعد سماع صوتها الذي بقي لها من ملامح الأمس الغابر، كان من الصعب التعرف عليها فللغربة والخذلان عمليات يعبث مبضعها بصفحات الوجوه، وجاوبتها زينات بعد التماع التطبيع مع «ماجي» في عيني العمدة المغشاتين ببياض السنين «يمه أنا مقتولة في دار العمدة..»
حسن حقق أمانيه القصيرة المدى مشى أمام زملائه المفتونين به وبالدمية التي اعتمد صغار القرية اسمها الجديد «ترند».
** **
- عبدالرحمن موالف