يمثل الاحتمال حالة من حالات الإمكان، بين ما يستحيل وقوعه وما هو أكيد الوقوع، وتكون هذه البينية التي تتصف بها الاحتمالات مساحة تتدرّج فيها نسب الاحتمالات قرباً أو بُعداً من الاستحالة أو اليقينية. وعلى هذا يصنّف الناس الاحتمالات، فهناك احتمال قوي، وآخر ضعيف، وثالث بعيد أو غير متوقّع، وهكذا من حيث القرب أو البُعد من أحد طرفي المعادلة داخل منطقة الشك أو الظن بين المتحقّق والمنفي.
تكون الإجابة بالاحتمال إذن –إي بالشك والظن- حينما لا يتأكّد الجواب للمجيب، فلا يستطيع أن يثبت ولا يستطيع أن ينفي، فتكون الاحتمالية إجابة في هذه الحالة، وقد يُفهم منها تغليب نسبة ما تفيد السائل.
في شعر البردوني تظهر لعبة الاحتمالات في محاوراته مع شخصياته أو في محاورات الشخصيات مع بعضها بعض كتقنية يبني عليها نصوصه ويمرّر من خلالها آراءه. فنراه يستنطق شخصياته لتجيب عن غموض لديه تجاه قضية من القضايا العامة، أوحدث مهم، كأن يكون حدثاً سياسياً مثلاً، فيأخذ هو دور السائل، وتأخذ الشخصية دور المجيب. والذي يجيب هنا يقرأ احتمالات المستقبل، بمعنى أن الشخصية تأخذ دور العرّاف أو الكاهن الذي يتنبأ بالقادم ويضع الاحتمالات. وقد يجعل الشخصيات بعضها يسأل، وبعضها الآخر يتنبأ أو يتكهن بالقادم، ويدير هو ما بينهم من حوار في قضية شائكة. ونلاحظ هنا أنه يلجأ إلى شخصيات غير عادية يظن فيها القدرة على معرفة ما سيأتي.
ففي السنة التي حدثت فيها الوحدة اليمنية بين اليمنين (الجنوبية والشمالية) كان البردوني يشعر بغموض حول هذا الحدث السياسي المهم، وتساوت عنده احتمالات نجاح هذا الحدث وفشله، من خلال استقرائه للظروف المحلية والدولية التي صُنع فيها الحدث والشخصيات الممثلة له ..إلخ، يظهر هذا التساوي من خلال قصيدته (ربيعية الشتاء) التي مرّر من خلالها رؤيته أو قراءته للحدث، حيث لم يكن متفائلاً ولا متشائماً، وكان بين البين، ربما يصدق عليه وصف (المتشائل) كما هو في رواية سعيد أبي النحس للفلسطيني إميل حبيبي، الذي يظهر بين التفاؤل والتشاؤم، وقد ظهر هذا في شخصياته من خلال لعبة الاحتمالات.
فـ(الربيعية) التي هي الشخصية الرئيسة تبدو حائرة في قراءة مستقبلها، وتذهب إلى سؤال العرّافة التي سمّاها (ذات الودع)، وتقول:
سألتُ ذاتَ الودع: ما طالعي؟
أفضتْ بردّين: عليَّ ولي.
والسؤال عن الطالع هو سؤال عن المستقبل أو القادم، لكن حتى إجابة العرّافة (ذات الودع) كانت ضمن لعبة الاحتمالات، فلم تكن إجابة واضحة ومحددة عن مستقبل الربيعية، وإنما أجابت إجابتين (احتمالين)، إجابة لها، وأخرى عليها، أي ضدّها، عبّرت عنهما بقولها: (عليَّ ولي)، وهو تواز في الإجابتين، يكشف ما يدور في ذهن العرّافة من تساوي الاحتمالين معاً.
هذا الغموض والإجابة بالاحتمالات نجده في قصيدة (لعبة الألوان)، التي هي أيضاً (لعبة احتمالات) يجيدها البردوني، حيث يندمج فيها صوت الشاعر مع صوت الشخصية التي يسألها في النص، ويظل السؤال المهم عنده هو (ماذا سيجري؟). وتأخذ الشخصيات دور المجيب أو العرّاف الذي يضع الاحتمالات/النبوءات.
يبدأ النص بقوله:
كان هذا ما جرى.. ماذا سيجري؟ ما الذي ياليلُ؟ سَلْ أوجاع فجري
وجملة (كان هذا ما جرى) التي افتتح بها النص تمثّل ماضياً شاهده السائل والمجيب وهو معلوم لديهم، اختصره الشاعر في جملة (كان هذا ما جرى)، لم يقل ما هو، ولم يحدّد ما يعنيه من الأمور التي جرت حينها، وجعل الإشارة إليها عامّة غامضة؛ لتحيل على أحداث كثيرة بتفاصيل غامضة، كانت القصيدة قد كُتبت عام 1978م، أي بعد مقتل الرئيس الحمدي بسنة تقريبا. وهو الغموض الذي يجعل البناء عليه في قراءة المستقبل مشوّشاً لدى السائل في النص؛ فيلجأ إلى استنطاق كائنات يراها أقدر على الإجابة. والسؤال المهم هنا هو السؤال عن القادم (ماذا سيجري؟)، القادم الذي سيكون بالضرورة مرتبطاً بذلك الماضي الذي تُبنى عليه التوقعات (الاحتمالات)، وقد يكون مفاجئا.
وحينما يُعرض السؤال على الشخصيات التي يخلقها النص تبدأ لعبة الاحتمالات. وأولى هذه الشخصيات هو (الليل) الذي سأله الشاعر عن القادم، وعن اسمه ولونه ورائحته وعن الهيئة التي يبدو عليها، وهو ما يكشف اهتمام الشاعر البالغ بمعرفة تفاصيل القادم وملامحه:
إنما أرجوكَ، قل لي ما اسمهُ؟
هل له رائحةٌ يا ليلُ تُغري؟
كيف يبدو؟ كل ما ألمحُهُ
أنَّ شيئاً آتياً يُشقي ويُثري
فـ(الليل) يجيب بقوله: (كل ما ألمحُهُ أن شيئاً آتياً يُشقي ويُثري)، وهي إجابة غامضة تُقرن الغنى بالشقاء، على غير الصورة النمطية التي تربط الغنى بالسعادة؛ مما يجعل حديث الليل يحمل غموضاً، إذ لا يتحدّد القادم أهو خير أم شر. فيحيد عنه الشاعر إلى شخصية أخرى هي (الثريّا)، التي يسألها عمّا سيأتي:
ليت شعري يا (ثريا) ما الذي
سوف يأتي بعده ذا؟ ليت شعري
فتجيبه الثريا بقولها:
ربما يأتي الذي يشعلني
ربما يأتي الذي يُخمد جمري
ربما فاجأني ما أشتهي
ربما لا قيتُ أزرى بعدَ مُزري
فالثريا لم تتضح لها الأمور جيداً وهي توازن بين احتمالات المستقبل (احتمالات الخير، واحتمالات الشر)، فتوازت عندها نسب الاحتمالات بين الذي سيشعلها، والذي سيخمد جمرها، وبين الجميل الذي تشتهيه، والمزري الذي لا تبتغيه. وقد أثّرت نسب الاحتمالات لديها على حديثها الذي جاء متوازياً بين احتمالات الإيجاب والسلب، ومتوازياً في إيقاعه وألفاظه وصيغه التعبيرية.
ففي البيت الأول كان التوازي بين الشطرين في (ربما يأتي الذي + جملة فعلية)، وهي جملة (يشعلني/ يخمد جمري)، وفي الجملة الفعلية تحتل الثريا المفعولية، ويكون الفاعل مستترا يعود على القادم الغامض المتخفّي الذي له وجهان، لا تدري هي بأي وجه سيأتي، أيأتي بالوجه الذي يشعلها أم بالآخر الذي يطفئها. ويؤكد التوازي في البيت الثاني تفاؤل الثريا وتشاؤمها معاً، من خلال قولها: (ربما فاجأني..) (ربما لا قيتُ..)، فالتوازي من (ربما + الفعل الماضي) يكشف توازي الاحتمالات، فهي على أمل أن القادم قد يفاجئها بأن يكون أجمل مما مضى، وهذا عندما تنظر بعين الأمل، غير أنها حينما تنظر بعين الواقع تظهر ملامح التشاؤم بأن يأتي ما هو أزرى مما مضى. حتى قولها (ربما فاجأني ما أشتهي)، يظهر أن سياقات ما تشتهي لم تحن بعد، والمفاجأة تحمل معنى عدم التوقّع، لكنها لا تستطيع أن تستبعد هذا الاحتمال/ المفاجأة.
تكرّرت (ربما) إذن في إجابة الثريا كثيراً، وهو التكرار الذي يعني الحديث بالاحتمالات وعدم اليقين، وتساوت في توزيعها على الاحتمالات وأنشأت بنية توازٍ أظهرت تساوي نسب الاحتمالات لدى الثريا؛ ولهذا قال الشاعر بعد ذلك:
الثريا –آه- مثلي تمتري
قُلْ لها يا (مشتري): ماذا ستشري؟
غير أن المشتري هو الآخر يجيب بـ(ربما) التي سبق أن أجابت بها الثريا، فيقول:
ربما بعتُ مداري ليلةً
واشترى يوماً مهبُّ الريح سرّي
فيتركه الشاعر لسؤال غيره، وهما (الريح) و(البرق):
ما الذي يا ريحُ، مثلي لا تعي ما الذي يا برق؟ يرنو وهو يَسْري
فـ(الريح) مثل الشاعر لا تعي القادم، ولا تستطيع التنبؤ به. أما البرق فيطيل النظر إليه من بعيد، ثم يَسري ولا يجيب.
فيصل الشاعر أخيراً إلى الفجر الذي أرشده الليل في أول القصيدة لسؤاله، حينما قال له (سَلْ أوجاع فجري)، فيسأله بقوله: (ما الذي يا فجرُ؟)، فيجيبه بغموض (يُومي سوف تدري)، أي يجيب بإماءة بأنك ستعرف لاحقاً، فالفجر هنا يعيد الشاعر إلى الغموض، كما أنه يعيده مرةً أخرى إلى لعبة الاحتمالات ولغة الثريا التي هي (ربما)، فيقول مخاطباً الشاعر:
ربما أصبحتَ شيئاً ثانياً
تزدري ما كنتَ قبل الآن تطري
وهي إجابة غامضة يستثقلها الشاعر ولا يجد من يجيب، فيختم القصيدة بقوله:
حسناً.. مَن أسألُ الآن؟ إلى
أيّ أكتاف الرُّبى، أحمل صخري؟
و(حسناً) هي إجابة من ملّ لعبة الاحتمالات؛ ولذلك قال (من أسأل الآن؟)، أي لا أجد من أسأله ويكشف لي غموض ما سيأتي، وهو الغموض الذي يثقل كاهله.
** **
- أحمد علي الشدوي