وقعت عيناي على اسم الدكتور محمد الرميحي لأول مرة في الأيام الأولى لحياتي الجامعية، وكان ذلك تحديدًا في شهر أكتوبر من عام 1985، حين اشتريت عددًا من مجلة «العربي» الكويتية التي رأس تحريرها بعده اثنان من أعلام العرب وهما د. أحمد زكي والأستاذ أحمد بهاء الدين.
قرأت مقالة الرميحي الافتتاحية، ثم حرصت على هذا كلما صدر عدد جديد من هذه المجلة المهمة جدًا وقتها، واتسع حرصي بالسعي إلى اقتناء أعداد قديمة للمجلة من «سور الأزبكية» بالقاهرة، حيث تباع الكتب والدوريات والمجلات القديمة.
لم أكن يومها أدري أنني سألجأ إلى ما كتب الرميحي ذات عدد من هذه المجلة الغراء كي أنجو من الرفت. كنت في السنة الرابعة في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ودفعني حماسي المعتاد، أو تسرع الشباب، وغيرتي على مكانة الجامعات المصرية إلى أن أتحدث عن ظاهرة «البترودكتوراه» و»البتروماجستير» في مؤتمر علمي نظمه مركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية بالتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية في مطلع فبراير 1989 حول «تطوير مناهج البحث السياسي». كنا أيامها نتهامس عن بعض الطلبة الخليجيين الذي يأتون إلى جامعات مصر، فيجدون من يذلل لهم السبل، ويفتح أمامهم باب الحصول على الشهادات العلمية العليا على مصراعيه، دون الاعتناء بأن ترتفع قاماتهم المعرفية إلى قدر درجاتهم الجامعية. وحرصت يومها على ألا أعمم هذا على كل هؤلاء الطلاب، فمن بينهم المجتهدون والمجيدون والمبدعون الراغبون في تحصيل المعرفة، والمحبون للعلم فعلًا، والمعتمدون على عقولهم وسواعدهم.
وما أن انتهيت من مداخلتي التي اتسمت بعفوية صبي غرير، لا تعنيه العواقب ولا تخيفه ردود الأفعال، حتى ملأ الغضب وجوه معيدين ومدرسين وأساتذة. وبعد ساعتين فقط كانت رئيسة القسم قد أعدت مذكرة بشأن الواقعة، تطالب فيها عميد الكلية بتحويلي إلى التحقيق، وتوقيع عقوبة شديدة، تعلمني حدود الأدب، بعد أن اتهمتني بالسب والقذف.
وأحال العميد المذكرة إلى المحقق فاستدعاني، ومثلت أمامه مجردًا من المستندات التي تثبت ما قلت، رغم دقته التي كانت لا تخفى على أحد. لكن كانت معي صورة من مقال نشره الرميحي في مجلة «العربي» واسعة الانتشار، عن هذه الظاهرة. أبرزته أثناء التحقيق وقلت:
- وشهد شاهد من أهلها.
وفي التحقيق أشرت إلى المقال، وأخذت اقتباسات منه، وقلت بكل ثقة:
- أهل مكة أدرى بشعابها، وإذا كان من أهل الخليج من يرفض هذه الظاهرة، فالأولى أن نرفضها نحن قبلهم.
صرخة الرميحي عن بيع الرسائل الجامعية، لا تزال تدور في البرية، فالبيع على أشده، وزاد الطين بلة، أن من يعدون الأطروحات المنتحلة أو المسروقة ساعدهم الإنترنت ثم الذكاء الاصطناعي على السرقة بلا حساب ولا تحسب.
لكن بعض صرخات الرجل في مجالات أخرى تلقى بعض الصدى، ولاسيما اعتباره الحرية قيمة مركزية لا تفريط فيها، إذ تبدو لديه أشبه بالشمس التي إن حضرت أمدت كل ما حولها بأسباب للعيش والنمو والتقدم إلى الأمام، وكذلك في تمسكه بالعقلانية، حيث التفكير العلمي ونبذ الخرافة والعشوائية والاتكالية، وفي انطلاقه من «الاجتماع السياسي»، حيث تخصصه، ليطل على مسارات معرفية أخرى خصوصاً الإعلام والثقافة والتنمية وعلاقات الأمم، وهو ما تعكسه كتبه ودراساته ومقالاته.
يجيل الرميحي بصره في البقعة الجغرافية الواسعة الممتدة من العراق إلى اليمن، ومن بحر العرب إلى خليج العقبة ويقول: «الخليج ليس نفطاً»، إذ في نظره كانت هناك أشياء مادية ومعرفية ورمزية قبل استخراج أول برميل نفط في شبه الجزيرة العربية، وهناك أشياء استمرت مع النفط، وأخرى ستبقى بعد نضوبه ونفاده، أو يجب أن يكون هذا.
لا يمكن أن ينكر المرء هنا تأثر الرميحي بنشأته، ثم مساره الأكاديمي والمهني فيما بعد. فالرجل الذي قضى أيام طفولته وشبابه الأول في البحرين، وكتب أطروحته للدكتوراه عن التغير الذي طرأ على مجتمعها، فتح عينيه على حركات اجتماعية وسياسية ذات أيديولوجيات متعددة، وعلى نشاط ثقافي، بعضه موصول بجذور بعيدة عن المورث الشعبي عن حياة البادية والبحر، والثاني صنعه أفراد نهمون في القراءة، اطلعوا على ما يُكتب في القاهرة وغيرها ويُطبع في بيروت، ويصل إليهم.
وعقب حصوله على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة درهام انتقل الرميحي للعمل في بيئة ثقافية مزدهرة، حين عُين بجامعة الكويت عام 1973، حيث البلد التي كانت وقتها تنفق بسخاء مفرط على الثقافة، بعد أن استقطبت أعلامها من عدة دول عربية، وفتحت لهم المجال للإجادة والإضافة والإبداع والإفادة، فنهل الرميحي من هذا العطاء مزيدًا، ثم انخرط في صفوف أهله، بعقل مفتوح، وصدر منشرح.
كنت أعرف هذه التجربة جيدًا وقت أن توجهت إلى الكويت في شهر ديسمبر من عام 2010 للقاء عدد من مثقفيها ضمن برنامج كنت أقدمه على قناة «دريم» المصرية الخاصة، كان عنوانه «مشاوير» تقوم فكرته على لقاء مفكرين وأدباء وأكاديميين عرب بارزين لمحاورتهم حول حاصل جمع ما ورد في مؤلفاتهم وما قطعوه من خطوات في مسارهم المهني والحركي، بعد الاطلاع على هذا جيدًا.
بهذه المناسبة قرأت كتب الرميحي، وكنت أتابع الكثير من مقالاته في بعض الصحف، بعد أن ترك رئاسة تحرير مجلة «العربي»، فذهبت إليه في بيته عارفًا عنه الكثير، فلما شرعت في الحوار راقت له الأسئلة، وامتدت الإجابات، فسجلنا حلقتين، لكن قيام ثورة يناير، وانشغال الإعلام كله بأحداثها، أوقف هذه البرنامج قبل أن ينطلق.
لم يبق في رأسي سوى بعض حيرة الرميحي وهو يمعن حزينًا في توصيف حال السياسة والمجتمع في العالم العربي، وفيما بقيت في مكتبي إلى اليوم نسخة زائدة في مكتبة الرميحي لأحد كتب وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر أعطاها لي، ولم يكن بحاجة إلى إهدائي كتبه، فقد كانت معي، حسبما يقتضي البرنامج.
ودارت الأيام، كما تشدو أم كلثوم، وكان لي مع د. الرميحي موقف وموضع حين مر كتاب لي في سلسلة «عالم المعرفة» الشهيرة، والتي كان الرميحي مستشارها، بعنوان «الخيال السياسي» عام 2017، وأتى الدور على كتاب «المجاز السياسي» فتعاقدت مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب على إصداره، بعد تقرير أجازه ومدحه كثيرًا، وشرعنا في تحريره، وإذا بخطاب يأتيني بالاعتذار عن نشره بدعوى أن المراجع وجد عدة مقالات نشرتها في صحف مختلفة قد أخذتها من مادة الكتاب وقت تأليفه، فلجأت إلى الرميحي، وكان وقتها في زيارة لباريس، فقال لي: حين أعود، سأنظر في الأمر، ثم أخبرني أنه سيحيل الأمر إلى محكم آخر، ونخضع لرأيه، فأتى الحكم منصفًا لي، وصدر الكتاب عام 2021.
وبغض النظر عن هذا التماس المباشر مع الرجل، فإنني أراه عن قرب أو بعد صاحب مسارات ثلاثة متعانقة في سبيكة لامعة، أولها التدريس الذي أخلص له إلى درجة تأليفه بحثًا عن كيفية إعداد الدراسات العلمية، وإلقائه محاضرات في الاجتماع السياسي والإعلام في جامعات بالكويت ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر والبحرين.
وثانيها الجهد الحركي الذي رأيناه في رئاسة تحرير عدة مجلات مهمة مثل «العربي»، ومنها أطلق «العربي الصغير» و»كتاب العربي» و»نيو أريبيا» ودوريات»الثقافة العالمية» و»عالم الفكر» و»دراسات الخليج والجزيرة العربية» و»حوار العرب»، ورئاسة تحرير سلسلة «عالم المعرفة» و»إبداعات عالمية» ورئاسة تحرير ثلاث جرائد هي «أوان» و»الفنون» و»صوت الكويت»، وتولى منصب الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، إلى جانب عضويته في العديد من مجالس مراكز الأبحاث والجمعيات العلمية والصحفية، ومشاركته في ندوات ومؤتمرات لم تتوقف إلى الآن.
لم يؤدِ انشغاله بالتدريس ورئاسة التحرير إلى توقفه عن التأليف فتوالت كتبه ومنها: «البحرين .. مشكلات التغير السياسي والاجتماعي» و»البترول والتغير الاجتماعي» و»معوقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الخليج العربي» و»المعوقات الاجتماعية للديمقراطية في الخليج» و»الجذور الاجتماعية الديمقراطية في مجتمعات الخليج العربية المعاصرة» و»النفط والعلاقات الدولية» و»الخليج ليس نفطًا» و»الكويت.. العمران والتنمية» و»أصداء حرب الكويت» و»الأعدقاء: قضايا الحرب والسلام في الخليج العربي» و»قضايا خليجية» و»أولويات العرب .. قراءة في المعكوس» و»اضطراب قرب آبار النفط»، كما ترجم كتاب «الكويت قبل النفط» وهو مذكرات س. ستانلي. ج. ماليري.
في التدريس وقيادة جانب من الحركة الثقافية والتأليف بدا الرميحي أحد من يمثلون رمانة الميزان في «الليبرالية العربية المعاصرة»، فإيمانه بالحرية لم ينسه العدل الاجتماعي، ومناداته بتثبيت أركان الدول القطرية لم تنزع عنه ميله العروبي الظاهر، ودعوته إلى الاستفادة من العطاء المعرفي للغرب لم يجعله يتخلى عن ضرورة الاستفادة من كل نافع في تراثنا العربي، وتقدم العمر به لم يعزله عن التفاعل مع جيل جديد من الباحثين والكتاب العرب، واعتقاده في نعمة النفط لدوره في التنمية والرفاه لم تمنعه من إبداء المخاوف من نقمته، ودعوته الجادة إلى عدم نسيان ما قبله، والاستعداد لما بعده.
** **
- عمار علي حسن