الثقافية - علي القحطاني:
تشهد المجلات الثقافية في العالم العربي والخليجي اليوم مرحلة متباينة في ظل التحديات الرقمية التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم. فعلى الرغم من أن الصحافة بدأت في الأساس بوجه ثقافي بحت، من خلال مشروعات صحافية رائدة مثل صحيفة الجزيرة التي أسسها الشيخ عبدالله بن خميس وغيرها من الصحف المحلية وفي الخليج العربي إلا أن التحولات الرقمية اليوم أصبحت عاملا مؤثرا في انتشار وتنوع المحتوى الثقافي.
يقدم الدكتور محمد الرميحي في لقاء لـ«الثقافية» أحد أبرز رموز الفكر والثقافة في العالم العربي، قراءة عميقة في واقع المجلات الثقافية ودورها المتجدد في مواجهة التحديات الرقمية التي تهدد هذا المجال. كما يتناول الرميحي، الذي ترأس مجلة العربي لقرابة عقدين، أهمية الصحافة الثقافية كوسيلة لنشر الفكر وتوعية الأجيال، مسلطا الضوء على تجربة الكويت الرائدة في تأسيس هذه المجلات، ومؤكدا على الحاجة المستمرة لتطوير هذا المجال لمواكبة العصر الرقمي. كما تحدث د.محمد الرميحي عن نقد الموروث ودور الثقافة في التنمية الخليجية.
واقع المجلات الثقافية
* في البداية، كيف تقرأ واقع المجلات الثقافية في العالم العربي والخليجي على وجه الخصوص؟ وما استشرافك لمستقبلها في ظل التحديات الرقمية المعاصرة، ولا سيما إذا علمنا أن نشأة الصحافة كانت ثقافية بحتة عندما أسس الشيخ عبدالله بن خميس صحيفة الجزيرة، والشيخ حمد الجاسر صحيفة الرياض؟
- الصحافة والمجلات الثقافية بخير، وهي في الظروف الحالية نوعان: نوع واكب التغير ولا يزال منتشرا، ونوع آخر تخلف عن التطور فذبل أو تراجع توزيعه. لو ضربنا مثالا بظروف اليوم، فأنا ما زلت أقرأ مجلة القافلة التي تصدرها أرامكو، وأتابع مجلة الجغرافيا الدولية (التي تصدر من أبوظبي)، كما أتابع الملاحق الثقافية في الجرائد اليومية، كجريدتكم وملحقها المتميز، وأحيانا تصدر جريدة القبس الكويتية ملحقا ثقافيا متميزا أيضا. وكما ذكرت، نشأت الصحافة في الأغلب في حضن الثقافة بشكل عام، ونذكر على سبيل المثال مجلة الهلال المصرية أو الرسالة، التي صدرت ثم توقفت بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في مصر. هنا الموضوع يرتبط بالمحتوى وحريات الصحافة؛ فإن وجد المحتوى الجيد والقيادة الجيدة للعمل الثقافي، أقبل عليها الناس أو القارئ. صحيح أنها تواجه تحديات من انتشار الرقمنة اليوم، إلا أن القراءة الجادة لها جمهورها أيضا.
العربي: الصوت المستنير
* منذ ما يقارب الستين عاما، تسعى دولة الكويت من خلال إصدارها لمجلة العربي لإيصال صوتها التنويري الثقافي إلى كل بيت عربي مع مطلع كل شهر. ليتك تحدثنا عن مراحل نشأتها، ورؤساء التحرير الذين تعاقبوا عليها، ومشاهير الإعلام والثقافة والأدب الذين كتبوا فيها؟
- مجلة العربي هي واحدة من منارات الثقافة العربية، وقد تأسست بناء على رغبة دولة الكويت في نهاية الخمسينيات، حين كانت مقبلة على الاستقلال، ليكون لها صوت عربي في أجواء العصر العروبي السائد آنذاك. وفقت المجلة في عدة عناصر: أولا، السخاء المادي الذي توفر لها، ما جذب أفضل الأساتذة في العمل الثقافي والصحافي؛ وثانيا، سقف الحريات في الكويت؛ وثالثا، القيادة المستنيرة. فقد وفق من سعى لإصدارها، وهما ثلاثة أشخاص: المرحوم صباح الأحمد، الذي كان مسؤولا في الإدارة الحكومية؛ والمرحوم أحمد السقاف، المثقف الذي عمل وعاش في الكويت وأصبح مواطنا تفخر به الكويت؛ والمرحوم بدر خالد البدر، من عائلة الجناعات المعروفة، وكان مثقفا ومهتما بالعلم. الاثنان، السقاف والبدر، لهما إنتاج ثقافي مميز، وقد سعيا للبحث عن هيئة تحرير بتكليف من الشيخ صباح الأحمد، ونجحا في استقطاب الأستاذ المرحوم أحمد زكي، الذي كان من أبرز المثقفين المصريين، وعمل وزيرا ورئيسا لتحرير الهلال (من بين أعمال أخرى)، وكان متخصصا في العلوم البحتة ومثقفا واسع الأفق. في عهد ه، أخذت العربي شكلها المعروف وأبوابها المشهورة في تعريف العرب ببعضهم.
في عام 1975م أسندت مهمة رئاسة التحرير إلى المرحوم أحمد بهاء الدين بعد وفاة أحمد زكي، واستمر حتى عام 1982 م عندما انشغل كثيرا مع الرئيس السادات. بعد ذلك، طلب مني الشيخ صباح الأحمد (وكان حينها وزير الخارجية ووزير الإعلام بالوكالة) أن أتولى المهمة، وقد قضيت فيها نحو ثمانية عشر عاما. لقد كانت العربي في تلك الفترة «مشروع دولة» اهتمت به القيادة العليا للكويت، وكانت الذراع الناعمة للقوة الكويتية.
رئاسة التحرير
* قضيت ما يقارب العقدين في رئاسة تحرير مجلة «العربي»، وقد كشفت لـ»الثقافية» أن هناك مفاوضات بين المجلس الوطني، المسؤول الأعلى عن مجلة العربي، وبين مؤسسة الكويت للتقدم العلمي لتحويل جميع أعداد مجلة «العربي» إلى صيغة رقمية حديثة على شبكة الإنترنت، بحيث يستطيع أي قارئ الاطلاع عليها بسهولة. إلى أين وصل الأمر؟
- لم تكن مفاوضات، بل كان قرارا اتخذته مؤسسة الكويت للتقدم العلمي لتحويل هذا الكنز الثقافي إلى صيغة رقمية حديثة تتيح للأجيال القادمة الوصول إليه. وقد طرحت علي الفكرة، وشجعتها، لكن للأسف، واجه المشروع معوقات بيروقراطية حالت دون تنفيذه رغم أهميته الحضارية والثقافية الكبيرة.
مصطلح «الثقافة»
* مصطلح «الثقافة» في مفهومها العام يمثل شكلا هلاميا، وله علاقة بمجمل حياتنا لأنها غذاء للعقل. نتساءل عن ماهية الثقافة ومن هو المثقف؟
- الثقافة، كما تفضلت، لها عدد من المفاهيم الكثيرة، ولكن إن ربطناها بالحياة يتضح أهميتها؛ فالشعب المثقف تقل لديه حوادث المرور (لأن المرور بجانب منه ثقافة) والشعب المثقف يقل عنده استهلاك الأدوية (لأن العناية بالصحة ثقافة) والشعب المثقف نشط اقتصاديا (لأن الادخار ثقافة) والشعب المثقف تقل فيه الصراعات لأن العمل السياسي ثقافة، وهكذا. بجانب ذلك، فهي تقوم بترقية الذوق وفهم الآخر وإشاعة التسامح في المجتمع الواحد وبين المجتمعات، إذا عرفنا أن التعدد صفة إنسانية. والمجتمع المثقف تقل فيه عاهة التعصب الديني والمذهبي والعرقي، كما أن الثقافة مدرة اقتصاديا؛ فأكبر ما يصدر الآن من الدول الكبرى هو في شكل ثقافة (السينما والمسرح والفنون التشكيلية إلى آخره) من النشاطات، بما فيها ما يعرف اليوم بـ(السوفت وير) أي برامج الكمبيوتر.
الصحافة الورقية
* كيف ينظر د. محمد الرميحي إلى من يقول إن «الصحافة الورقية» سوف تندثر، وأن الصحافة الإلكترونية سوف تبقى؟ والدليل على ذلك عندما ننظر إلى المطبوعات المتميزة في العالم مثل مجلة «ناشيونال جيوغرافيك»، التي تصدر منذ أكثر من قرن! وتنشر بثماني لغات منها العربية، وهذه المجلة تزداد انتشارا وتتوسع؟
- أعتقد أن القول بأن الصحافة الورقية سوف تندثر قول مبالغ فيه كثيرا؛ فقد قيل إن الراديو سوف يندثر بعد اتساع استخدام التلفاز، ولم يحدث. والآن لدينا صحافة ورقية ناجحة بل مزدهرة؛ مثلا مجلة الإيكونوميست البريطانية زاد توزيعها، وأيضا مجلة الفورين أفيرز الأمريكية، والتي أصبح لها قرنان من الزمان. كما أن هناك صحافة مزدهرة في الهند وجنوب شرق آسيا واليابان. الموضوع هنا يتعلق بجودة المنتج وانسجامه مع المتغيرات. الصحافة اليوم تغيرت مما كان يعرف بـnews paper إلى views paper، أي من أخبار إلى عرض تحليل الأخبار، وبهذا تجد أن الصحافة الناجحة اليوم تحمل من التحليلات أكثر من الأخبار، أي ما وراء الخبر.
الرقابة والمجتمعات المغلقة
في المجتمعات الحديثة من حق الأفراد أن يعتقدوا بما يريدون، ولكن ليس من حقهم فرض قناعاتهم في شكل تشريع على الجميع، وتزداد سلطة «الرقيب» في المجتمعات المغلقة. كيف لنا أن نتجاوز تلك العقبات والفئات في ممارسة سلطتها ووصايتها على الجميع؟
- لا أعتقد أن سلطة الرقيب في عصرنا الحالي هي المطلوبة؛ المطلوب هو المناعة الفكرية والثقافية، أي تدريب الأجيال على استخدام عقولهم، فليس كل ما يكتب صحيح، وأيضا تدريبهم على البحث والتقصي. تنتشر أفكار التضليل في المجتمعات التي هي ناقصة المناعة الفكرية، ولذلك فإن تدريب الناشئين على التفكر والتساؤل هو المهم. كما يجب على السلطات أن تواكب الثورة الرقمية من خلال التعامل السريع مع ما ينشر من أخبار كاذبة؛ فإن لم يكن هناك أخبار، تنتشر الأخبار الكاذبة. «No information brings misinformation» كما يقول المثل الإنجليزي.
مناصب كثيرة والمهمة واحدة
* شغلت عددا من المناصب المهمة في رئاسة تحرير مجلة العربي، وأمانة المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت، كما رأست تحرير مجلة حوار العرب التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي من بيروت لمدة عامين، وعملت مستشارا لمركز البابطين للترجمة الذي يصدر كتبا مترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية وبالعكس، وأستاذا في علم الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. أيهم أقرب إلى نفسك، وهل الأعمال والمناصب الإدارية تشغل الأستاذ الجامعي عن مهامه وأبحاثه الجامعية الأساسية؟
- في رأي كثيرين، وأنا منهم، أن الأستاذ الجامعي يجب أن يمارس بعض الأعمال الثقافية خارج التدريس، فهي تقدم له خبرة جديدة واطلاعا جديدا. الأكاديمي عادة نظري وربما أكثر من اللازم، أما العمل في القطاعات الأخرى التي تختلط فيها الثقافة بالبيروقراطية يؤسس لأن ينظر من خارج الصندوق المغلق. لقد كانت تجربتي ثرية في تثقيفي وزيادة معرفتي، وأرى أن الإنسان متى ما أحب عمله (واختلطت الهواية بالعمل) كلما أجاد؛ لأن العمل مع الآخرين يكسب الإنسان مهارة التشبيك الاجتماعي، وهي مهمة ربما حتى أكثر من الشهادة العلمية.
نقد الموروث
* طرحت في أكثر من مقالة حول نقد الموروث، وهل نحن في حاجة إلى قراءة التراث الديني بصورة مختلفة عما يقدم حتى الآن؟
- نعم، نحن في حاجة وحاجة ماسة لنقد الموروث، خاصة أن ذلك الموروث قد تغطى بطبقات من الأهواء على مر السنين الطويلة، تكاد أن تخفي جوهر الرسالة المحمدية الكريمة. فهناك اجتهادات دخلت على صحيح الدعوة، وأهمها التسييس، وأصبح هناك خلط بين قواعد الإسلام وبين ممارسات البعض، كما اختفى فهم تغير الأزمنة. وأنا مع أن الثابت هو العقيدة والعبادات، وكل ما عداها، كما قال أهل مدرسة المصلحة، هو معاملات ننظر إليه بتمعن؛ فإن توافق مع المصلحة كان بها، وإلا يهجر على أنه قول لزمانه وليس لزماننا. وأرى أنه ليس هناك «عالم دين» بهذا المعنى، بل هناك فقيه في الدين (إنسان يخطئ ويصيب). ولنا في سيرة الإمام الشافعي، الذي غير رأيه في بعض المسائل من المدينة إلى بغداد إلى القاهرة!! أما اليوم فهناك اختطاف للتراث من أهل السياسة، الذي أسميه «الإسلام الحركي»، وهو تنظيم بأشكال مختلفة همه القفز على السلطة، وقد فشل فشلا ذريعا في السودان وفي تونس وفي مصر (لوقت قصير)، وهو يتبنى مقولات قريبة من الشعوذة!
فواتح مجلة العربي
* يصارحك البعض بأن ما كنت تكتبه في فواتح مجلة العربي إبان رئاستك لتحريرها مقالات مطولة، وليس لديهم وقت لقراءة المطولات! لماذا لا تختصر تلك المطولات بحيث لا تتعدى ألف كلمة أو أقل؟ لماذا ينفد صبر البعض في القراءة؟
- الذي ينتقد الكتابات المطولة أتفهم دوافعه، ولكن لا أوافق عليها، لأن القراءة الجادة تحتاج إلى تفسير قد يطول نسبيا، فلماذا نقدم الكتب لطلابنا ولماذا نقوم بطباعة الكتب وإقامة المعارض؟ أنا من الناس المقتنعين بالحكمة القديمة الجدية والقائلة إن «من سوف يحكم العالم هم من يقرؤون». القراءة تقود إلى المعرفة، ولم يتقدم شعب دون قراءة جادة. نحن نقرأ القرآن ولا نختصره، حتى نتدبر حكمته وحتى نفهمه، وفيه آيات طوال. فالاعتقاد بقصر المقالات يجب ألا يروج له في نظري، فحتى أجيب على أسئلتك هذه أخذت مني وقتا وجهدا. ولا ترتقي ثقافة شعب دون أن يقرأ في مجالات كثيرة ومتعددة.
السلاسل الثقافية
* «عالم المعرفة» من أهم إصدارات المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، وهي تعنى بالسلسلة المعرفية الثقافية الجادة، وكان يقف خلفها الأستاذ عبدالعزيز الحسن، وكان يسلمها كل شهر للشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير الكويت رحمه الله. حدثنا عن تلك السلسلة العلمية الجادة وليتنا نأخذ لمحة حول شخصية ومترجمات عبدالعزيز الحسين؟
- عالم المعرفة بحد ذاتها «جامعة مفتوحة»، وقد كنت محظوظا بالعمل فيها لسنين طويلة، وهي هدية أخرى من هدايا الكويت الثقافية ومنجم للثقافة. وقد حرصنا على أن تكون في أغلبها مترجمة من كتب بلغات مختلفة لإغناء الثقافة العربية. وكانت من بناة أفكار عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني، وقام بالعمل فيها الدكتور فؤاد زكريا، وهو من المثقفين المصريين الذين حضروا إلى الكويت في سبعينيات القرن الماضي. أما الأستاذ المرحوم عبدالعزيز حسين فلم يخلف لنا إلا مطبوعا واحدا هو «المجتمع العربي» كما أذكر. لقد كان بدرجة كبيرة مثقفا، فهو والعدواني من خريجي الأزهر في وقت كان منارة للفكر العربي.
أهمية الثقافة الشاملة
* توجد دراسة لك عن أهمية «الثقافة» الشاملة، وتفتح آفاقا للحاصلين على جائزة نوبل، وتتناول دراسة من عام 1901م حتى 2005م، حيث إن حظوظهم في الحصول على الجائزة تفوق نظراءهم غير المهتمين بالفنون والموسيقى والرسم والقصة القصيرة والرواية والثقافة. ليتك توجز لنا هذه الدراسة؟
- نعم، ذلك صحيح. فتلك دراسة لافتة، فالمهتم بالثقافة، كما جاء في ذلك المقال الذي أشرت إليه، من العلماء حظه أكبر من الآخرين الذين ليس لهم اهتمام بالثقافة، وهي دراسة علمية نشرت ومتوافرة. وأعني «مهتمين بالثقافة»، أي لهم علاقة بالفن والرسم والنحت والمسرح بجانب اهتمامهم بالعلوم البحتة. وهذا يؤكد أن العلوم الاجتماعية مهمة جدا لدارسي العلوم البحتة والتطبيقية.
** **
@ali_s_alq