يمكن لي الزعم أن منتجات الثقافة الكويتية رافقت كلّ مراحل حياتي وحياة أبناء جيلي، إبتداءً من البرنامج التلفزيوني الهائل «افتح يا سمسم»، الذي كانت تنتجه مؤسسة الانتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي، وكان مقرّ المؤسسة في دولة الكويت، لما كانت تحتويه من بيئة حاضنة للطاقات الابداعية العربية، ومنهم المبدعون العراقيون، وعلى رأسهم، الشريك في تأليف هذا البرنامج الكاتب والشاعر العراقي زهير الدجيلي، بالاضافة الى الشاعر فلاح شاكر، الذي شارك في تأليف الأغاني وتلحينها. وأسماء أخرى من ممثلين وفنيّين.
كنّا نتابع مطبوعات مثل مجلة «العربي الصغير» التي كانت تدخل بنسخ محدودة الى العراق، وكانت مثيرة للاهتمام في تلك الأوقات برفقة المجلات العراقية المعتادة المخصّصة للأطفال والمراهقين مثل مجلة «مجلتي» و«المزمار».
وفي بدايات المراهقة ومع اقتنائي لأول جهاز راديو ترانزستور صغير صرت مدمناً على إذاعة الكويت، وبالذات التمثيليات الاذاعية باللغة العربية الفصحى المعدّة عن قصص وروايات عربية وعالمية، وأيضاً برنامج «شاهد على العصر»، الذي طالعت من خلاله صوراً مختصرة عن أحداث ووقائع وحكايات من أرجاء العالم، ويتم تقديمها بطريقة درامية، وبأصوات أشهر الممثلين الكويتيين والعرب.
كانت لحظة درامية بالغة بالنسبة لي، صبيحة يوم الثاني من آب/أغسطس 1990 حين صحوت من نومي وفتحت الراديو وبقيت أحرّك مؤشّر البحث ولم أعثر على إذاعة الكويت. بقيت لبعض الوقت منشغلاً بالبحث عن الإذاعة حتى فتح بعض أفراد العائلة التلفزيون وطالعنا البيان الحكومي الذي يعلن عن احتلال الكويت. كان الحدث صادماً للجميع ومبعث قلق كبير، وكان محزناً أيضاً، وإن بشكل أقل وطأة، لأن إذاعتي الأثيرة قد اختفت.
كانت هذه الإذاعة مصدراً ثقافياً غنياً لمراهق متعطّش للمعرفة وليس مجرد اذاعة تبث الأخبار والأغاني، ولا أظنّ أن اذاعة عربية أخرى كانت توازيها في هذا المجال، والسبب أن العاملين عليها استقطبوا أهم الطاقات الابداعية العربية في الكتابة والتحرير وأجمل الأصوات الاذاعية وكوادر ممثلين محترفين.
في فترة العقوبات الاقتصادية الدولية على العراق بدأ الكثير من المثقفين والأكاديميين يبيعون أجزاء من مكتباتهم على أرصفة شارع المتنبي في بغداد، في محاولة لمواجهة العوز والفاقة، وقد تبيع بعض الأسر كامل المكتبة بعد وفاة صاحبها، ومن بين تلك الكتب كانت تظهر الاصدارات القديمة (ما قبل آب 1990) من سلسلة عالم المعرفة.
إنتقلت تلك النسخ الى أيدي مقتنين جدد، اشتروها بسعر زهيد، لأنها قديمة ومستعملة، وصارت أغلب مكتبات جيل المثقفين الشباب تحتوي على أعداد من هذه السلسلة الهامّة، وما زلت أتذكر أنني حصلت على الجزء الأول من كتاب (أدب أميركا اللاتينية: قضايا ومشكلات) من ذات السلسلة، من تحرير سيزار فرناندث مورينو وترجمة أحمد حسان عبد الواحد، وهو من اصدارات العام 1987، وبقيت أشهراً طويلة أنقّب بين تلول الكتب على أرصفة شارع المتنبي بحثاً عن الجزء الثاني، حتى حصلت عليه في نهاية المطاف.
لقد كانت لأغلب البلدان العربية ومؤسساتها الثقافية الرسمية والخاصّة أدواراً مهمة في تنمية وتطوير الثقافة العربية ولا شكّ، ولكن الكويت أخذت حصّة كبيرة، أكبر من حدودها الجغرافية، وتحوّلت الثقافة بمختلف صنوفها ومجالاتها الى قوّة ناعمة مدّت الأواصر مع فئات كثيرة من الاجيال المتعلمة في العالم العربي، وتلك التي غدت لاحقاً جزءاً من صناعة الثقافة والابداع. وهو دورٌ أتمنى شخصياً أن تستمر الكويت في تأديته وتطويره، لأن الاستثمار في الثقافة ليس فيه خسارة أبداً.
** **
- أحمد سعداوي