الثقافية - علي القحطاني:
في حوار حصري لـ«الثقافية» صحيفة «الجزيرة»، يكشف معالي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخضيري وزير الثقافة و الإعلام الأسبق عن رحلته الفريدة مع الشعر منذ نعومة أظفاره و نمت ذائقته الشعرية في المرحلة الدراسية المبكرة وكان يقوم باستكشاف عوالم الشعر ومقولات الحكمة من الجرائد والمجلات والكتب ويشاركنا ذكرياته عن الجلسات الأسبوعية التي أقامها مع زملائه لمناقشة روائع الشعر العربي، مسلطاً الضوء على تأثير هذه التجارب في تقوية مهاراتهم اللغوية والبيانية. كما يتحدث عن استخدامه للشعر كأداة فعّالة في توضيح الأفكار خلال الاجتماعات والمحاضرات، مستشهداً بمواقف بارزة، مثل تقديمه الاستراتيجية العمرانية الوطنية أمام مجلس الشورى بأسلوب ابتكر فيه مزجاً بين الأرقام والأبيات الشعرية.
ويواصل الدكتورعبد العزيز الخضيري لـ «الثقافية» في حديثه تسليط الضوء على المختارات الشعرية التي أثرت في الذائقة الأدبية على مر العصور، مؤكداً على رسالته في كتاب «قصتي مع الشعر»، الذي جمع فيه دروساً من الحياة ونماذج من أجمل الأبيات الشعرية. وبين الحكمة والغزل، يكشف الكتاب عن تنوع الأغراض الشعرية التي تغذي الروح وتبرز جماليات اللغة.
في هذا اللقاء، تتجلى بوضوح علاقة الدكتور عبد العزيز الخضيري الوثيقة بالشعر بوصفه وسيلة للحكمة، الإلهام، والبناء. ومن خلال هذه التجارب، يقدم رؤى قيّمة عن دور الشعر في تشكيل الهوية الثقافية والإنسانية.
البدايات
كيف كانت بداياتك في تطوير ذائقتك الشعرية في سن مبكرة، خاصةً مع تأثير معلم اللغة العربية، الأستاذ عبد الله التويم، في الصف الثالث الابتدائي؟ وما الذي حفزك على قراءة الشعر ومتابعة الأبيات الشعرية ومقولات الحكمة في الجرائد والمجلات والكتب خلال تلك الفترة؟ حدّثنا عن تلك التجارب، معالي الدكتور عبد العزيز؟
أنا سعيد بمشاركتكم في جريدتنا العزيزة «الجزيرة» التي عشنا معها - وما زلنا - أوقاتاً جميلة في نقل الثقافة والأدب، وأبارك لكم استمرار هذه الصفحة الهامة والملهمة لبناء الثقافة الأدبية والعربية للأجيال، وأنا أحد هؤلاء الأجيال الذين كبروا مع جريدة الجزيرة وأخواتها في مختلف مناحي الصحافة المحلية والعالمية.
وعودة إلى سؤالكم عن البدايات في تذوق الشعر والاستئناس به واستخدامه في مناحي الحياة، وكما ذكرت في كتابي «قصتي مع الشعر» بما نصّه:
«نمت ذائقتي الشعرية في عمر مبكر، ولعل أول ومضاتها عندما نجح مدرس اللغة العربية في الصف الثالث الابتدائي الأستاذ القدير عبدالله التويم في انتشالنا كطلاب قادمين من سنتين من التعليم المضطرب لأسباب عديدة؛ أهمها الاختلاط بين مختلف الأعمار السنية، فنجد في الصف الأول الابتدائي طلاباً في عمر العشرين سنة وطلاباً في عمر الستة أعوام!، وهذا الخلط العمري - مع أنه لم يستمر لفترة طويلة - إلا أنه أوجد فجوة تعليمية لم تُمكن المعلمين خلال السنة الأولى من القيام بواجبهم بالشكل المأمول.
عندما انتقلنا - كطلاب صغار في العمر - إلى الصف الثالث الابتدائي بعدما تم فصلنا عن الطلاب كبار السن وتحويلهم إلى التعليم الليلي؛ منحنا الله - سبحانه وتعالى - أستاذنا القدير عبدالله التويم - كما ذكرت - الذي رأى أننا لم نحصل على التمكين المطلوب في اللغة العربية، وبدأ في تدريسنا منهجي الصف الأول والثاني الابتدائي مع ما هو مقرر للصف الثالث، وبذل في ذلك جهوداً عظيمة تذكر له ويشكر عليها، ولم نغادر الصف الثالث الابتدائي إلا ونحن - كطلاب صغار - قادرون على قراءة الجرائد، وهو تحدٍ حقيقي في وقتنا وفي مثل أعمارنا خصوصاً عندما كانت الجرائد والمجلات هي وجبة الأسرة اليومية للقراءة ثم مختلف الكتب.
لكن الوقفة المهمة في تلك السنة، هي قدرته على جعلي أحب اللغة العربية، ليس من خلال قواعدها وإعرابها؛ وإنما من خلال استخدام الشعر كوسيلة لتقوية النطق والحفظ والتأكيد على سلامة مخارج الحروف وسلامة اللسان، ومن هنا كانت بدايات انطلاقي في قراءة الشعر وتتبع الأبيات الشعرية ومقولات الحكمة التي كنت أرى فيها عمق المعرفة والتجربة، وتكوّن لدي خلال السنوات - أو لنقل الأعوام أفضل - التالية حصيلة كبيرة ومتميزة من أبيات الشعر ومقولات الحكمة التي كانت تزخر بها الجرائد والمجلات والكتب والتقويم الهجري، وكنت في البداية أجمعها ضمن دفاتر خاصة بها، ثم بدأت في جمع الكتب والدواوين الشعرية».
جلسات أسبوعية مع الشعر
هل يمكنك أن تشاركنا ذكرياتك الجميلة حول تلك الجلسات الأسبوعية التي كنت تقيمها مع زملاء العمل منذ أكثر من أربعين عاما، حيث خصصتم ساعة لمناقشة الشعر والشعراء وأجمل القصائد؟ كيف كانت تلك التجربة، وما تأثيرها على تقوية لغتكم العربية؟
تلك الجلسات جاءت لأسباب عديدة، من أهمها أن أغلبنا تعلم خارج المملكة في العديد من الدول الغربية، ولاحظت أن البعض منهم لغتهم العربية ضعيفة، وبعضهم لغته ضعيفة جداً ولا يستطيع التعبير عن آرائه أو أن يناقش بلغة عربية واضحة وقوية، وكانت طبيعة عملنا تتطلب عرض الأعمال على كبار المسئولين في الدولة من الأمراء والوزراء وغيرهم، وهو ما يُضعف طرحنا عند عدم القدرة على الحديث بلغة عربية سليمة، خصوصاً وأن أغلب تلك الشخصيات لا يفضلون استخدام اللغات الأخرى وينتقدون من يلجأ إليها.
لهذا جاءت فكرة تطوير قدراتنا في اللغة العربية من خلال استخدام الشعر كوسيلة للتطوير، ولأن المحاورة تلزمنا بالتميز خصوصاً وأن المجموعة تمثل صفوة العاملين الطامحين لتطوير قدراتهم، ولقد حققت هذه الفكرة - وخلال فترة قصيرة - التطوير اللغوي المطلوب من الجميع.
أبو العلاء المعري في مجلس الشورى
في العديد من محاضراتك واجتماعاتك، استخدمت الشعر كوسيلة لتوضيح الأفكار والمفاهيم، كما استشهدت بقصيدة أبي العلاء المعري حول معرة النعمان: هل يمكنك أن تحدثنا عن هذه القصة، وكيف أسهَمت في توصيل رسالتك؟
كما يقال «خاطب الناس على قدر عقولهم»، هذه المقولة كانت دائماً حاضرة في ذهني عند تقديم أو عرض أي عمل، وقصيدة أبو العلاء المعري التي يقول فيها:
«مَرَرْتُ بِرَســمٍ في سيــاتٍ فراعَني
به زَجَلُ الأحجــــــار تحت المَعَــاولِ».
كانت دائماً حاضرة لإيضاح الفرق بين البناء على البناء والهدم لمحاولة البناء، وقد حدث أنني استخدمتها عندما طُلب منا في وزارة الشئون البلدية والقروية عرض الاستراتيجية العمرانية الوطنية (السعودية 2020) - التي تم إعدادها عام 1985م - على مجلس الشورى برئاسة معالي الشيخ محمد بن إبراهيم الجبير - رحمه الله - وبحضور جميع أعضاء المجلس، وقد طلب مني معالي وزير الشئون البلدية والقروية في حينها الدكتور محمد بن إبراهيم الجارالله أن أقدم عرض الاستراتيجية، ولأن الاستراتيجية تعتمد بشكل مباشر على الأرقام والإحصائيات والمقارنات، وكنت أعددت المقدمة للعرض وفقاً لذلك، ولكن عندما وقفت على منصة المجلس وكان العديد من أعضاء المجلس المؤثرين هم من الأدباء والشعراء ومحبي الأدب والإعلاميين والتربويين؛ فوجدت أن مقدمتي العلمية البحتة لن تحرك بهم ساكناً، ولهذا قررت في ثوانٍ معدودة - وفي موقف صعب على شاب في مقتبل العمر - أن أغير المقدمة وأغامر بطرح مختلف في تقديم الاستراتيجية، وقلت بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله:
«صاحب المعالي رئيس المجلس، الإخوة الأعضاء: أقف اليوم أمامكم كما وقف القاضي أبو العلاء المعري على آثار معرة النعمان المعروفة بسيات، والناس يهدمونها لإنشاء عمارة أخرى بدلاً منها، وقال في ذلك:
«مَرَرْتُ بِرَســمٍ في سيــاتٍ فراعَني
به زَجَلُ الأحجار تحت المَعَــاولِ
تنازعهـا عبـل الذراع كأنَّمــا
رَمى الدَّهـر فيما بَيْنهُم حَـرب وائِل
أَتَهْدِمها شُلَّت يمينــك خَلِّها
لمُعْتَـبِرٍ أو زائــرٍ أو مُسـائل
منــازل قــومٍ حدّثتنا حَدِيثَهَم
ولمْ أرَ أحْلَى مِن حديثِ المنـــــازلِ».
إن ما سوف أطرحه يحاكي هذه الأبيات حيث إننا كفريق الاستراتيجية نرى أن التنمية في المملكة العربية السعودية يتم هدمها بسياسات تنموية لا تراعي قيم وهوية وعمارة وإنسان السعودية، ولهذا فإننا نضع بين أيديكم هذه الاستراتيجية التي تبني الإنسان وتنمّي المكان»، ثم أكملت العرض العلمي للاستراتيجية، ولقد كانت ردة فعل الأعضاء على العرض أكثر من رائعة، وتمت الموافقة على اعتمادها من مجلس الشورى، وما زلت أحتفظ في مكتبتي بالعديد من الرسائل التي وصلتني في الجلسة وبعد العرض والتي تحمل الكثير من الشكر والثناء على العرض.
التجارب الإنسانية
كيف يعكس الشعر تجارب الإنسان وعمق مشاعره، بما فيها من أفراح وآلام وآمال، وما الدلالات التي تراها في بيت الحسين بن علي الطغرائي:
«أعلل النفس بالآمال أرقبها، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»
في سياق تجسيد هذه التجارب الإنسانية؟
الحمد لله أن قرآننا الكريم والأحاديث النبوية من أهم مصادر الطمأنينة والسعادة وراحة البال، وكما نعرف جميعاً أن القرآن يحمل الكثير من الومضات الدالة والدافعة على حسن الظن بالله - سبحانه وتعالى - وأن مع العسر يسرا، ومن هذه القاعدة العظيمة جاء الكثير من الأبيات الشعرية التي تبني على هذا المفهوم، ومنها كما ذكرت في سؤالك قول الشاعر الحسين بن علي الطغرائي والتي يقول فيها:
«أعلِّلُ النفــس بالآمـالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحـةُ الأمَلِ
لم أرتضِ العــيشَ والأيـامُ مقبلةٌ
فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَـلِ
غالى بنفسيَ عِرفـاني بقيمتِها
فصُنْتُها عن رخيـصِ القَـدْرِ مبتَذَلِ
وعادةُ النصـلِ أن يُزْهَى بجوهرِه
وليس يعمـلُ إلا في يــدَيْ بَطَلِ».
وقد شاركه الكثير من الشعراء حول هذا المعنى الممتع والمؤثر في النظرة الإيجابية للغد وبناء اليقين أن الغد دائماً أفضل، بعد فضل الله ومنّته.
الحياة مع دايم السيف
عشت تجربة فريدة مع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، تخللتها لحظات متميزة من الإبداع في الشعر والرسم. حدّثنا عن أبرز المواقف التي أثرت في تجربتك، وكيف أسهمت هذه التجربة في تشكيل نظرتك للإبداع والأصالة؟
صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مدرسة جامعة بين الإدارة والإرادة والأدب والحكمة والشعر والرسم، وكما يقول عن نفسه أنه «مجموعة إنسان»، ذلك الإنسان المتكامل في عطائه وخدمته ومحبته لدينه ووطنه وولائه لقيادته وخدمته لمواطني المملكة العربية السعودية والمقيمين على أرضها، وفي مقدمتهم ضيوف بيت الله الحرام ومسجد نبيه؟.
لقد عايشت على مدى أعوام عديدة إنتاج سموه لكثير من الأعمال الأدبية من الشعر والرسم في الكثير من المناسبات الوطنية وغيرها من المناسبات التي كان يتحدث فيها، وكانت كلماته كلها قصائد شعر مركز ومباشر ومختصر.
فن «المختارات الشعرية»
مع تطور فن «المختارات الشعرية» عبر العصور، بدءًا من المفضليات والأصمعيات وصولاً إلى ديوان الحماسة لأبي تمام: كيف ترى أثر هذه المختارات في تشكيل الذائقة الأدبية والنقدية لدى القراء؟ وكتابك «قصتي مع الشعر» ينتمي لفن المختارات الشعرية، فما المعايير التي اعتمدتها في انتقاء القصائد وكيف أثرت رؤيتك الشخصية في هذا الاختيار؟
المختارات الشعرية عبر العصور تمثل الذائقة الشعرية لكل مرحلة ولها تأثير إيجابي كبير على ذائقة المتلقي في مختلف العصور، ولولا تلك المختارات وغيرها مما تم توثيقه لفقدنا الكثير من تلك الأشعار والحكم الجميلة، وفي كتابي «قصتي مع الشعر» حاولت أن أشارك في هذا المجال والمحيط الجميل وأن أقدم شيئاً مما تعلمته وأثّر فيّ وأن أجعله متاحاً للأجيال الحالية والقادمة، وأعتبر ذلك جزءاً من رسالة المسئول في نقل كل ما يعين على بناء الإنسان وتطوير قدراته ولغته وذائقته الشعرية، والكتاب قد لا أرى أنه يمثل مختارات شعرية فقط وإنما يقدم دروساً حول كيفية التعامل مع المواقف وتوظيفه بما يخدم الرسالة التي يحملها المتحدث، وهنا أرجع وأؤكد على أهمية مخاطبة الناس على قدر عقولهم.
شعر الغزل
رغم تركيز كتابك على شعر الحكمة والمشورة أنه ضم قصائد غزلية تبرز جماليات الشعر العربي في هذا المجال: ما الذي دفعك لاختيار هذا التنوع، وما أهم الأغراض الشعرية التي تناولتها في مختاراتك الشعرية؟
القصائد الغزلية هي جزء هام من منظومة المختارات الشعرية، كما أنها تحد من قسوة الحياة وجفافها وتؤكد على أن أغلب الشعراء - إن لم يكن كلهم - يملكون القدرة على نظم القصائد الغزلية، وأن حياتهم لا تخلو منها مهما قست الحياة عليهم.
** **
@ali_s_alq