عتمة رابضة عند مدخل الغرفة، كل مَن همّ بدخول الغرفة أبطأته لحظات فوقها، قبل أن تسمح له بالولوج إلى الداخل.
عتمة تحرس غرفته ، تُحصي من يتخطاها منهم ، هم يدركون ذلك ثم ينكرونه.
ينظرون إليه مسجّى برهبة تفرش ظلالها على قلوبهم ، كما كان دائماً حين شموخه ونزعته إلى الصعود الدائم إلى ما لا تطيق نفسه أحياناً ، شموخه وسعيه في الأرض نهِماً ، كانا قدره الذي عاش به طوال حياته ، لم يستند إلى شيء في حياته إلا على ظنّه الذي نما في ذهنه مذ كان شاباً بادئاً في بناء حلمه الثري ، ظنّ ألّا سند له إلا ما اغترفته نفسه من ثراء ، الآن هو مسجّى وسط حضورهم ، وكل عين تغرف من وجهه غَرفة تمزجها فوراً بنظرات الآخرين ثم تمتدّ طويلاً في سهوب غيب مريب.
عتمة صنعتها نفوسهم المرتابة من يوم غدٍ المتحفزّ ، ها هي قابعة كالوحش المربوط أمام مدخل الغرفة يملؤها انتظار وأمل وترقب.
وحين تشيّد هواجسهم أملاً مضيئاً قادماً ، ونعيماً مُنتَظَراً ، لا تلبث حركة ما ، كصوت أطلقته المُغذّية حين ينضب ماؤها ، فتعود العيون ثانية إلى رشدها ، تعود من سفرها المخضّب بالأمنيات العِذاب ، كل العيون ترقُب عمل الممرضة الآلي ، ينطفئ صوت المُغذية ، ويبدأ صوت أنين ممضّ يتصاعد يطلقه والدهم ، فتهبط أبصارهم ويشعر كل واحد منهم بألمه وعذابه، تتلهى نفوسهم بألم والدهم ، حينها ينظمهم ألم آخر.
والدهم المسجّى أمامهم ، بلغ به الإرهاق مبلغه ، في حالتيه ، الأولى حين كان يسخرُ بالهدوء والدعة والظل ، ويؤثر الشمس والحرور والنَصَب ، يسابق اللحظات المارقة كي يظفر بحلمه الذي صنعه وتوّجه بتعبه وشبابه، وحالته الثانية الآن ؛ إذ أمضّه المرض وأودى به.
رقّت قلوبهم بالدموع وهو يتداعى أمامهم ، فتتناوب احتمالات اليوم القادم أمام أعينهم ، تناوبهم أملاً ووجعاً وخوفاُ ، يوم مراوغ لا يستقر يناوب أذهانهم ، يفجع قلوبهم ثم تنكره لحظاتهم إلى حين ، يوم يعلمون أنه لا بد قادم وسينزع عن قلوبهم غطاء صنعته أحلام والدهم واطمأن به زمناً ، هاهي العتمة المتربصة تتحفز للانقضاض على حلم والدهم ووصاياه، تتحفزّ لهدم حلم والدهم الذي بناه عبر سني شبابه وتوّجته الأيام حين غدا كهلاً.
وحين تطرق العتمة الرابضة خلف الباب قلوبهم، حين تستفزّ نفوسهم بوعيدها المحتمل، تنهض في نفوسهم آمال عِتاق بأن يتجاوزوها وهم يخرجون من غرفة أبيهم دون أن تعلق بأثوابهم ولو للحظة.
ليلة مريضة ، تكالبت عليها هواجس الأبناء مختلطة بأنين والدهم المتصل، يحيطون بسرير والدهم، هم اليوم، وعلى غير عادتهم، يجتمعون كلّهم، تخوض في أذهانهم هواجس قديمة، فيؤجلون مدّ قلوبهم إليها أو تفحص مثالبها، الآن وقد أزف الفراق ولم يبق إلا قليل من الظن، وفي غمرة الهدوء التي تفرضها طقوس الوداع ورهبة الفراق، تزداد طرقات العتمة المتربصة خلف الباب، فتوقظ في نفوسهم احتداماً برياً.
تزداد الليلة مرضاً من كل ناحية، فوالدهم يتداعى، ممسكاً بأملٍ واهٍ يتلاشى ببطء، وأحلامهم يتربص بها وحش مربوط خلف باب الغرفة، ينتظر انطفاء وهج انتظارهم، وإسدال رموشهم بدموع الفراق، وبعد أن خفق القلب خفقته الأخيرة، همت عيونهم بظلال حزن معتم.
نهار جديد كان الغائب الوحيد فيه هي شمس الأمس المشرقة، إذ تماثلت العتمة المتربصة لأهوائها، فتمددت فوق رؤوسهم، حاجبة شمساً كانت تظلّهم.
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة
@rhrh5576