تجعلنا المواقف الصعبة المتتالية ننظر إلى كل الحقائق واليقين بنظرة الشك والارتياب، فنعيد حينذاك ترتيب مصفوفة القيم بطريقة أو بأخرى فتسقط قيمة في مقابل علو أخرى مشكّلين بذلك وعياً جديداً للمرحلة.
كل ما نحن عليه، كل لحظات الإدراك والاتزان ومواقف الشجاعة والبطولات والمحبة والرحمة حين تغشى قلوبنا فتفيض وتشمل كل من حولنا؛ كل هذا وليد المواقف الصعبة.
إننا قوم سقطنا في براثن الراحة وألفة السكون حتى لم نعد نريد الخروج منها إلا إليها، نبحث عن الاختصارات في كل الطرق والقمم من العلم، القمم من النجاح والإنجازات بأسهلها وأقصرها، القمم من العلم والمعرفة بأقصر وأقل الكلمات. إلا ان الاختصارات لا تؤدي في بعض الأحيان الى ذات الوجهة ولا تعطي جودة مماثلة للتجربة.
الفضل كل الفضل للعثرات وللحظات العزلة والخوف ولحظات الظلام الأكثر حلكة وللأشخاص السيئين في حياتنا وللعلاقات المتعبة والوحل الذي غطست فيه أقدامنا ذات يوم ولكل الانكسارات والخيبات. لذلك كله الفضل في ارتقائنا للدرجة الأعلى في سلم الوعي. ففي عدمها يندر أن نتعلم درساً أو ننال حكمة وبها يتضاعف ثراء مخزون التجارب والحكمة لدينا.
من تلك التساؤلات التي لا نجد لها أجوبة، أومن ذلك الموقع الذي شعرنا فيه بأننا في مفترق طرق؛ ومن تلك الليالي التي نستيقظ فيها من النوم فزعين خائفين ومستنكرين ما مررنا به في يقظتنا. من هذا كله يشرق فينا جانب أكثر إضاءة.
قد نصحو من غفوتنا الطويلة ذات يوم وندرك أن ذواتنا لم تعد هي ذواتنا في السنتين الماضيتين «وقد أفنيت من العمر ما أفنيت في محاولات عقيمة لبلوغ الحكمة ولم تفهم فصولها القديمة الجديدة ولم يوصلك لذاتك الجديدة إلا أرشيف التجارب الصعبة تلك»
«إذا أراد المرء أن يتجدد، فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أن يغرب كما تفعل الشمس» (عبدالفتاح كيليطو)
تغيير الأحوال والأراضي والأماكن والتوجهات والمقامات بل حتى وأصناف الطعام تغير في المرء الشيء الكثير.
سمعت ذات مرة نصيحة تقول: واجه ذاتك لوحدك، أفهمها، قابلها وأصلح شأنها في صباك في مقتبل العمر في أوج الفتوة قبل أن تجد نفسك في مواجهتها بحدة حين تخور قواك وتثقل المسؤوليات كاهلك ويكون برفقتك شريك قد يصاب بشيء من الحطام حينها.
كان بالإمكان أن تفهم الدرس ببساطة حين أتاك برفق ولوّح لك من بعيد وحين جاءتك الإشارات على أشكال متعددة.. إلا أننا بوعي أو بدونه اخترنا إغماض أعيننا وغضضنا البصر عن الدروس المنتظرة حتى اقتربت واشتد أثرها وكأننا اخترنا تعلم الدرس بصعوبة بدلاً من تعلمه بيسر. لا بأس ففي الألم أيضًا من العمق ما لا يوجد في الفرح.
إن وجود الناس السيئين والأحداث الصعبة والاختبارات المتتالية رغم صعوبتها يجبرنا على الخروج من منطقة الراحة وملامسة زوايا أشد ظلامًا في أرواحنا لإلقاء الضوء عليها ومعالجتها وإصلاح من قد يمكن إصلاحه.
من تلك الأحلام والمساعي ما تعلقنا به حد الالتصاق وخُيّل لنا زوال النعيم بزوالها وأن العيش ما العيش دونها. وقد يكون النعيم المقيم في التخلي عنها.
وربما لو تخليت عن حلم ورغبة دفينة ذات مساء وألقيت بها في البحر فإذا بالأبواب تفتح والأرزاق تتوسع وقد حجبت هذا الإدراك عن عينيك بيديك وحين أدركت.. لن تعود أدراجك «فهل رأيت مدركًا من بعد إدراكه يعود!»
تتنوع التجارب والاختبارات في مراحل العمر لتمر على جوانب مختلفة فحينًا تمس الجوانب الأكثر قربًا وحينًا آخر تمر عابرة سهلة يسيرة ومن كلاهما يولد جديدٌ منك.
«من أحلك نقطة في الظلام يخرج النور وبأضدادها تعرف الأشياء»
** **
- إيمان يوسف الحسن