الثقافية - علي القحطاني:
صدرت رواية «دموع الرمل» للدكتور شتيوي الغيثي عقب ثلاث مجموعات شعرية (لا ظل يتبعني)، و(عمر يزمله القصيد)، و(سيرة لبياض قديم)، وقد أكد أن حكايات الجدات والأمهات المعين الأول لفكرة السرد كونها تحمل في طياته البنى الأسطورية الشفاهية التي يمكن أن تتناقل بين الأجيال، ومن هنا كانت رواية: (دموع الرمل) تحمل في طابعها الجانب التاريخي على طريقة السردية الشعبية آخر جاءت هذه الرواية ضمن المشروع الذي أطلقته دارة الملك عبد العزيز في مبادرتها: (تاريخنا قصة) لكي تضيء جوانب عديدة من تاريخ وحضارة المملكة العربية السعودية، ورأى د. شتيوي الغيثي أنه يمكن صنع العديد من الروايات التاريخية عن المملكة في الثلاثمائة سنة الماضية، وهناك العديد من القصص التي يمكن لها أن تُرْوَى، فهي جاهزة كموضوع سردي لأن تُبنى عليها الرواية التاريخية بامتياز كما تحدث د.الغيثي عن تحوّل عدد من الشعراء للكتابة الروائية وتوظيف الفلسفة في النص الروائي.
حكايات الجدات
دائماً ما تكون حكايات الجدّات البوابة الأولى للدخول في عالم السرد؛ حدثنا عن هذه الرواية التاريخية التي تتناول فصلاً من حياة المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، فكرة الرواية، طقوس كتابتها؟
- نعم، إلى حدٍّ كبير كانت حكايات الجدات والأمهات المعين الأول لفكرة السرد سواء كان سرداً يهدف إلى تربية الطفولة، أو كان سرداً يحمل بنية حكائية أكبر، ولطالما اعترف العديد من الساردين بهذا المعين الأول الذي تشربوا معه فتنة السرد، ولعل ذلك راجع إلى كون حكايات الجدات تحمل في طياته البنى الأسطورية الشفاهية التي يمكن أن تتناقل بين الأجيال محافظاً على الأصل الأول إلى حد ما مع إمكانيات التخييل التي هي في طبيعة العقول السردية الشفاهية، أو الشعبية التي عادة ما تنزح إلى تشكيل التصورات الشعبية للعالم، ولذا لا غرابة أن تكون حكايات الجدات العتبة السردية الأولى التي ترتكز عليها الأقدام من أجل الولوج إلى العالم السردي الكبير، وربما شكلت حكايات الجدات عالماً كاملاً يصعب معه الإفلات من قبضتها في السنوات اللاحقة، حتى وإن اختفت، فهي تبقى غائرة في العمق التصوري للعالم، ومهما ابتعد السارد عن تلك الرؤية الأولى للسردية الشفاهية العجائزية – إذا صح الوصف – إلا أنها ربما تتسرب، وإن بشكل بسيط، إلى بناه السردية فيما بعد بوصفها السردية الأولى التي شكلت المخيال الشعبي الطفولي.
بالنسبة إليّ فإنه على رغم حضور رافد حكايات العجائز إلا أن البنية الشفاهية التي ربما كانت أكثر تأثيراً على تصوراتي السردية الأولى كانت «سواليف» الرواة في المجالس البدوية والقروية التي أعطت بعداً تاريخياً وشعبياً للكثير من الحكايات المسرودة في تلك المجالس، فلستُ أنسى تلك الوجوه المنصتة لحكايات التاريخ الشعبي القريب في منطقة حائل يرويها كبار السن، حتى تمتد الحكاية أو (السالفة) فترة من الزمن يغيب فيه الوقت من أجل إكمال الحكاية التي عادة ما تأتي بعدها قصيدة تحاول إثبات مصداقية الحكاية المروية. لقد شكلت حكايات الرواة وسوالف البدو ونزاعات القبائل أو كرمها وسلامها مع بعضها، وقصص تشكل الدولة السعودية بمراحلها الثلاث، الرافد الأكثر حضوراً لديّ أو لدى المجتمع الحائلي بعمومه. ما زلت أذكر كيف ينصف الرواة وصف أبطال المعارك حتى من أولئك الذين من خارج قبائلهم، ولا إشكال في ذلك؛ بل ربما ساقوا قصة نُبل بعضهم تجاه أعدائهم، وهذه السرديّات، على بساطتها في المخيلة الشعبية، إلا أنها تحمل بُنى حكاية غاية في الأهمية لمن أراد أن يتكئ عليها لصنع رواية تتسم بالفنية، لكن الأهم أن تتحول تلك الحكايات إلى روايات تحمل قيمة سردية يمكن لها أن تستفيد من كافة أشكال الرواية في العصر الحديث بحيث تعطي تلك الحكايات معالجات جديدة ترفع من قيمتها الفنية، ولعل هذا ما جعلني ألجأ إلى تلك الحكايات لبناء سردية مجازية متخيلة تتكئ على ذات المخيلة الشعبية لتصنع فارقاً فنياً، ومن هنا كانت رواية: (دموع الرمل) تحمل في طابعها الجانب التاريخي على طريقة السردية الشعبية، لكنها تحاول أن تلتزم فنيات الرواية في العصر الحديث. نعم حكاية نويّر وأبي نوير وولدها وعالمها البدوي بالكامل هي حكاية متخيلة، لكنها تكوّنت في الأصل من بذور صغيرة جداً متفرقة في السرد الشعبي، أو في الواقع الاجتماعي الذي ربما عشتُ جزءاً منه إلى فترة قريبة، أقصد أولئك البدو الذين عرفتهم، وعشت معهم وعرفت حكاياتهم في منطقة حائل حينما بدأت البداوة تنتهي شيئاً فشيئاً، وتذهب باتجاه التمدن، فيصبح الأحفاد يحملون البداوة حكاية مسموعة أو مقروءة دون أن يعيشوا تفاصيلها حقيقة في غير الحكايات.
من جانب آخر جاءت هذه الرواية ضمن المشروع الذي أطلقته دارة الملك عبد العزيز في مبادرتها القيّمة: (تاريخنا قصة) لكي تضيء جوانب عديدة من تاريخنا السعودي، بحيث ترفد الرواية بكل ما تمتلك من طاقات فنية هائلة لإيصال القصة التاريخية إلى الأجيال السعودية القادمة، فجاءت هذه الرواية كواحدة من تلك الروايات التي أطلقتها الدارة التي بالفعل أخرجت هذا المشروع في مساحة هائلة من حرية الكتابة التي منحوها لنا دون أي تدخلات غير فنية أو حقائق تاريخية؛ بل بالعكس تماماً كانوا خير معين على تحقيق الدقة التاريخية والجودة الفنية، ثم إنّ الرواية التاريخية في السعودية تحتاج بالفعل إلى نوع من الالتفات إلى تاريخنا السعودي القريب كونه تاريخاً ملحمياً يمكن صنع العديد من الروايات التي تحمل قيمة حكائية عالية، إذ أزعم أن في الثلاثمائة سنة الماضية هناك العديد من القصص التي يمكن لها أن تُرْوَى، فهي جاهزة كموضوع سردي لأن تُبنى عليها الرواية التاريخية بامتياز.
الشعراء وكتابة الرواية
تحوّل عدد من الشعراء للكتابة الروائية، هل رأيك أنّ الرواية لديها مساحة واسعة للبوح أكثر من القصيدة المؤطرة بالوزن والقافية وكلمات محدودة؟
- أنت تعرف بالتأكيد أن الشعر العربي تجاوز تلك الأطر التي كانت تحده فأصبح أمام فضاءات نصية مفتوحة، فالشاعر الحديث ربما يستطيع الدخول في مناطق عديدة من الحياة؛ لكن تبقى على رغم ذلك ذاتية الرؤية تعبر عن ذات الشاعر وتطلعاته ورؤاه أكثر من أي شيء آخر، على كل ما في الشعر من طاقة لغوية تفجر المعنى، وتتوسع به إلى مجازات عديدة، في حين تبقى الرواية أقرب إلى التماس مع حياة الناس بحيث تكون المجاز السردي عن حياتهم وعيشهم وآمالهم وتطلعاتهم وإحباطاتهم وانكساراتهم وتفاصيل أيامهم وأماكنهم وأفكارهم. كان الشعر يحقق ذلك في العصور القديمة حتى صار الشعر ديوان العرب، لكنه انزاح للتأملات الذاتية في هذا العصر، ولم يعد يعطي تفاصيل الحياة كما في الرواية لذلك جاءت الرواية لتأخذ هذا الدور، ومن هنا يمكن جعل الرواية ديوان العصر الحديث إذا صحت مثل هذه المقارنات. سنجد شيئاً من هذا التماثل في العصور القديمة وتحديداً في العصر العباسي الذي لجأ فيه بعض الأدباء إلى الحالة السردية؛ لأن الأفكار والفلسفات والحياة تطورت كثيراً، وأصبحت أكثر تعقيداً، فظهرت المقامات كمحاولات سردية توضح ذلك التعقيد وتحولات المجتمع في تلك الفترة، كما ظهرت سردية حي بن يقظان، سواء مع ابن الطفيل أو مع غيره، بوصفها سردية أخذت أشكالاً متعددة مع بعض الأدباء والفلاسفة الذين منحهم السرد فرصة أكبر للقول، فضلاً عن سرديات أبي العلاء المعري وهو الشاعر الكبير الذي ربما مهّد للشعراء بأن يلجؤوا إلى السرد لفتح آفاق أدبية جديدة مع رسالة الغفران أو رسالة الملائكة، بل يمكن عدّ الكثير من القصائد العربية القديمة سردية شعرية كونها تحمل في طياتها رؤية سردية، أتذكر هنا السردية الشعرية التي قدمها الحطيئة في وصف الكرم العربي الذي كاد معه أن يقتل الرجل ولده من أجل ضيفه حتى خرجت قطعان الحمير الوحشية لتكون ضوءاً للرجل وإكرام ضيفه، هذا غير أن العرب في طول تاريخهم لم يكن الشعر هو الأدب الوحيد الذي يعرفونه؛ بل كانت الحكايات مصاحبة في أخبار العرب والسير العربية المعروفة كسيرة الزير سالم، وسيف بن ذي يزن، وأبي زيد الهلالي، وحكايات ألف ليلة وليلة، وأدب الرحلات. ودعني أخطو خطوة أعلى قليلاً فأعتبر أن التاريخ نفسه وأساطيره إنما هو حكاية سردية كبرى لا تختلف في كثير منها عن أي سردية فنية، إلا في كونها تذهب باتجاه محاولة عقلنة هذا التاريخ المروي وتصفيته أحياناً، التي قدلا تنجح كل مرة، إلا تعود مرة أخرى إلى كونها عملاً سردياً، ما جعل المؤرخين يختلفون في سردياتهم للحكاية الواحدة، وهذا يعني أن الذهنية العربية هي ذهنية حكائية كذلك إلى جانب كونها شعرية، لكن ربما كان الاهتمام بالشعر على المستوى النقدي والرسمي أكثر، في حين كان الاهتمام السردي على المستوى الشعبي، ومن هنا سارت الأجناس الأدبية جنباً إلى جنب دون أن تلغي بعضها، الذي ربما يختلف في حضور الرواية الحديثة أنها تسرد حكاية الإنسان المهمش في، حين حكى التاريخ أحداث الإنسان الذي تمركزت حوله السلطة الشعبية أو الرسمية أو الدينية، وغاب الإنسان الاجتماعي البسيط الذي حاولت الرواية الحديثة أن ترفعه من هامشيته إلى مركزية أدبية، وهنا تأتي أهمية الرواية بوصفها الجنس الأدبي الأكثر حضوراً في هذا العصر باعتباره سردية إنسان هذا الزمن.
الفلسفة والنص السردي
توظيف الفلسفة في ثنايا بداية روايتك، وأنّ «الحياة ذاكرة» أتت متناغمة مع النص السردي « لم تكن للحياة إلا أن تكون حكاية. في الحكاية تبز المعاني، وفي الحكاية يتشكّل هذا العالم»... هل رأيك أن الروائي يريد تشكيل عالمه بمزيج من الفلسفة والأجناس الأدبية الأخرى أمّ أنه يرهق نصّه الإبداعي بالترهّلات والزيادات؟
- ليست مهمة الروائي أن يتحوّل إلى فيلسوف في نصّه السردي، إنما تأتي التساؤلات والرؤى الفلسفة ضمن العمل الأدبي دون أن تثقله بالكثير من السردية الفلسفية -إذا صح الوصف - فالعمل الروائي هو فن في الدرجة الأولى، وعلى السارد أن يذهب باتجاه أدبية النص أكثر من فلسفيته، وورود الجوانب الفلسفية في نصه إنما هو ورود الأسئلة الطبيعية في الحياة كاملة على اعتبار أن الأديب شاعراً أو سارداً كان، ولا يزال واحداً من أهم المتعاطين مع الحياة أدباً وتساؤلاً، وهل الأدب إلا محاولة مجازية لفكر الكاتب تجاه واقعه وعامله الذي يعيشه؟ في كل أديب شيء من فلسفة، وإن لم يشعر بذلك أو لم يرغب، وأقصد ذلك الأديب الذي يحاول أن يتساءل في أدبه عن الحياة، ولكن الأهم ألا يثقل نصه بالأسئلة الفلسفية، لأن عمله ليس عملاً فلسفياً، وفي دموع الرمل جاءت المحاور الفلسفية ضمن العمل، وليس خارجه، بل جاءت أقرب إلى فرشة سردية من الحفيد تجاه حكايات جدته التي هي حكايات عن عالم مدهش في تصوراته جعلت منه أمام أسئلة كبرى وجودية وفلسفية، ربما لم يكن لها أن تتشكل لو لم تظهر حكاية نويّر أمامه بكل عجائبيتها وتاريخيّتها، وفي ظني أن العمل الأدبي، وتحديداً الروائي هو محاولة لفهم هذا الوجود، وهذا العالم، ولذلك يعتبر ميلان كونديرا أن الرواية تحمي من نسيان الوجود، وهذا كلام يتقاطع به مع الفيسلوف هيدغر الذي يعتبر أن تاريخ الفلسفة القديم هو تاريخ نسيان سؤال الوجود الإنساني في العالم، لأن تاريخ الفلسفة منذ العصر اليوناني ذهب باتجاه فلسفة الموجودات، ونسي فلسفة الوجود، وفي رأي هيدغر كذلك أن الأدب، والفنون بوجهٍ عام، تسعى إلى إظهار الوجود الإنساني إلى العيان الفكري، وأراني أسير مع كونديرا إلى أن الرواية من أهم الأعمال الأدبية التي تضع الإنسان أدبياً في قلب وجوده وتساؤلاته وتطلعاته وأحزانه وتصوراته وذكرياته، ولذلك استطاعت الرواية أن تتداخل مع أجناس أدبية عديدة، ويؤكد بول ريكور أن السرد هو ذاكرة، والحياة مسرودة وفق تلك الذاكرة في جوانب كبيرة منها، ومن هنا فإن الرواية التي قدمتُها للقراء تخاطب التاريخ والإنسان والذاكرة على حد سواء، ومن الطبيعي أن تأتي الفلسفة ضمن هذا العمل، ليس فقط في بدايتها، وإنّما حتى في الحوارات بين الشخصيات، وبعض الرمزيات التي في النص، رغم أني لم أخطط لذلك بشكل صارم مسبقاً، فهي جاءت عرضاً وضمن الحدث التاريخي والشخصي، سواء لدىويّر أو أبيها أو ولدها، أو حتى لدى شخصية عبد أبي سالم الذي أخذ الحوارات إلى أبعاد وجودية قد يراها البعض عبثية من منظورهم الشخصي.
التاريخ منجم للروائيين
التاريخ منجم لم يكتشف بعد من قبل الروائيين، وبمثابة استعارة ككل الاستعارات الضرورية لحياة الرواية، ودائماً ما يحذر الكُتّاب من الرواية التاريخية لمخاطرها. كيف ترى هذه المسألة على ضوء تجربتك؟
- أتفهم هذا الحذر من قبل العديد من الروائيين لخوض مغامرة الرواية التاريخية لصعوبتها، فهي تحتاج إلى مزج بين الحدث التاريخي والحدث المتخيل، وأحياناً يحتاج إلى تخييل التاريخ نفسه، بمعنى نجعل من التاريخ نفسه عملاً متخيلاً، وهذا الأمر يجعل الخطورة أكبر، كونها تتعرض إلى حوادث شبه مسلّم بها عند المؤرخين، أو عند الناس، ومن الصعب التماس معها، خاصة في العالم العربي الذي يعطي مساحة أوسع لمثالية الماضي على حساب فساد الحاضر، فالروائي سيقع في إشكالية تدنيس المقدس التاريخي - إذا جاز التعبير بذلك - فهو أمام متلقٍ ما زال يعطي اعتبارية أكبر للتاريخ وللماضي، فضلاً عن أن الرواية التاريخية تمس مناطق ناس لهم تاريخهم الذي امتد من الماضي إلى الحاضر، الذي يعتبر مصدراً من مصادر الهوية الثقافية لديهم، فملامستها أو حتى مساءلتها، ولو تخييلاً، سيكون له من العواقب الشيء الكثير، ومهما حاولنا الذهاب بعيداً في منطقة التخييل في التاريخ، إلا لابد من أن سيكون هناك بعض الملامسة لأحداث تاريخية حساسة لدى الناس؛ لكن ومن ضوء التجربة السردية التي قمت بها بوصف دموع الرمل هي رواية تاريخية في الأصل، فإنني أرى أن التاريخ زاخر جداً بالأحداث والحكايات التي يمكن الاتكاء عليها، التي ربما سوف تعطي ثقلاً أدبياً للنص على المستوى الروائي، على رغم كل تلك المخاطر التي يتخوّف منها الروائيون، لذا أدعو روائيينا- إذا سمحتم لي بذلك - أن يقتحموا عالم الرواية التاريخية لما فيها من زخم معرفي وسردي كبيرين سيجعل لرواياتهم قوة لا مثيل لها.
** **
@ali_s_alq