عن دار النشر نوار سور بلان الفرنسية، صدرت العام الماضي 2023 النسخة الفرنسية لرواية «قطار إلى سمرقند» للروائية الروسية جوزيل لاكينا في حوالي 480 صفحة «قطار الى سمرقند» يسلِّط الضوء على المخاطر التي تعرّض لها المتضررون الذين سلَّموا أنفسهم لقسوة الحياة في الصحاري والسهول والجبال نتيجة للمجاعة التي ضربت الاتحاد السوفييتي في العشرينات من القرن الماضي.
وُلدت مؤلفة الرواية جوزيل لاكينا عام 1977 في قازان عاصمة جمهورية تتارستان الروسية. درست اللغة الإنجليزية والألمانية في جامعة قازان، ثم التحقت بمدرسة السينما في موسكو وتخصصت في كتابة السيناريو. صدرت روايتها الأولى «زليخة تفتح عينيها» في عام 2015 التي تُعدّ من أكثر الكتب مبيعا في روسيا. تُرجِمت أعمالها إلى أكثر من ثلاثين لغة وحصلت على جوائز أدبية مرموقة، كما أن روايتها الثانية «أطفال نهر الفولجا» لاقت نجاحا كبيرا في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من أن الكتب التاريخية التي تتعرّض للمجاعة التي ضربت الاتحاد السوفييتي قليلة إلى حد بعيد، على عكس المجاعة التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين، وأبرزها المجاعة الكبرى التي عصفت بأوكرانيا، فإن موضوع رواية» قطار إلى سمرقند» الأساسي هو المجاعة التي ضربت الاتحاد السوفييتي وجمهورياته والمناطق التي تقع على امتداد نهر الفولجا ونهر دنيبر وشمال القوقاز وأوكرانيا وجبال الأورال في العشرينيات من القرن الماضي بسبب الجفاف والحروب الأهلية. نتج عن فقدان الأمن الغذائي في تلك المناطق أن تحول كثير من الشباب إلى متسولين ولصوص ومدمني كحول وتحولت الكثير من الفتيات الى بغايا. على اثر ذلك، اتخذت الحكومة السوفيتية آنذاك قرارا بتنظيم قوافل إخلاء من الأماكن المتضررة. تشكلت هذه القوافل من قطارات مخصصة لنقل الأطفال على وجه الخصوص.
أشرف الضابط دييف في رواية «قطار إلى سمرقند» على القطار التي نقل حوالي خمسمائة طفل، بدأ خط سير القطار من منطقة قازان باتجاه سمرقند، ولكي يصل القطار الى تركستان التي نجت من المجاعة، بات لزاما عليه القيام برحلة طويلة تبلغ آلاف الكيلومترات عبر غابات نهر الفولجا وجبال الأورال وصحاري آسيا الوسطى.
خلال هذه الرحلة، يلتقي دييف وركَّاب القطار بنساء ورجال من أماكن مختلفة، يحاول مع المفوض بلانش والممرضة بوج حماية الأطفال من الجوع والعطش والخوف والكوليرا. يتذكر دييف الجرائم التي ارتكبها باسم النظام الحاكم السوفييتي أثناء تأديته الخدمة العسكرية. تمتلئ الرواية بالعديد من المواقف التي تجعل القارئ ينتقل بخياله من حادث مأسوي لآخر أشد قسوة.
نُقدّم للقارئ من خلال هذا المقال ترجمتنا العربية لحوالي 750 كلمة.
قازان
أربعة آلاف كيلومتر هي بالضبط المسافة التي يجب أن يقطعها قطار الإسعاف من قازان إلى تركستان، لا وجود لأي قطار حتى الآن: تم التوقيع على مستند رسمي بتجهيز قطار عشية التاسع من شهر أكتوبر1923. لم يكن هناك ركاب آخرون يمكن اصطحابهم من دور إيواء الأطفال ومراكز الاستقبال، تفاوتت أعمار الأطفال والبنات الأكثر ضعفا وإرهاقا بسبب المجاعة ما بين السنتين والثانية عشرة سنة. أصبح لهذه القافلة قائد بالفعل: إنه الشاب دييف من قدامى المحاربين الذي شاركوا في الحرب الأهلية، لقد تم ترشيحه لتولي هذه المهمة للتو.
«ينادي على الأطفال» ثم يتوجه تشايانوف قائد إدارة النقل بالحديث الى دييف بعد أن ألقى التحية عليه قائلا: العدد خمسمائة، يجب أن يتم نقلهم من قازان إلى سمرقند، سوف تتسلم حوالتك المالية وتأخذ التعليمات من السكرتير.
منذ عدة سنوات وهو يعمل في مجال النقل، كان دييف ينقل كل ما يمكن أن يتم شحنه عبر السكك الحديدية، من القمح والماشية المرغوب اقتناؤها إلى دهن الحيتان الذي أرسلته النرويج، الدولة الصديقة، في صهاريج إلى السكان الذي يقيمون في مناطق نهر الفولجا والذين تعرضوا للمجاعة، لكنه لم ينقل الأطفال نهائيا.
- متى يجب أن أرحل؟
- غدا إذا كان باستطاعتك، أو بمجرد أن يصبح قطارك جاهزا يا دييف، يتعين عليك أن تتحرّك بأسرع ما يمكن، فالأطفال لا يحبون الرحلات الطويلة، قريبا ستتمكن من الاقتناع بذلك الأمر.
لم يستمر الحديث سوى بضع دقائق. الغريب في هذا الحديث كانت تلك العبارة الغامضة: قريبا ستتمكن من الاقتناع بذلك الأمر. لكن لم يكن لديه الوقت الكافي ليمعن التفكير في هذه المهمة. نعم إن التأملات الطويلة مفيدة لكبار السن لأنهم يعيشون في عالم من الفراغ التام.
انطلَق أولا ناحية المحطة، أخذ وعدا بفحص كل القطارات، كان عليه أن يختار قطارا واحدا فقط، لا يتوفر الآن سوى قطار قديم من الدرجة الأولى، يتميز بلونه الأزرق الخاص بالنبلاء، لكنه تحول الآن إلى اللون الرمادي الباهت، كانت عربة القطار مبطنة بقماش ممزق في بعض الزوايا، ومزودة بمرايا كبيرة وكان مدخل العربة واسعا حيث يمكن للمرء أ ن يرقص رقصة الفالس. يبدو أن بها مكتبة متنقلة وبيانو، يوجد أيضا حوضا للاستحمام مصنوع من الحديد الزهر لكنه تالف، (لقد تم جلبه من حجرة الغسيل ثم تُرك في هذا المكان.) بدا أن هذه العربة تشبه الصورة المثيرة للسخرية التي يتم وضعها داخل خزانة فارغة الا من شمعدانات سوداء اللون. أبدى دييف استياءه لكنه وافق عليها، قام بنزع القماش المهترئ وأزال الشمعدانات، وضع مكان الأرفف الأنيقة المخصصة لحمل الأمتعة ألواحا وصنع منها أسِرَّة مكوَّنة من طابقين، احتفظ بحوض الاستحمام. بالإضافة إلى ذلك، حاول أن يطالب بموقد حديدي مخصص لتسخين مياه الاستحمام من أجل الأطفال، يبدو أنه ينتمي الى الطبقة البرجوازية، لهذا تم تأجيل البتّ في مسألة الماء الساخن إلى وقت آخر.
أما عن عربة القطار الثانية، فقد كان عليه أن ينتظر يوما كاملا ليضمها الى قافلته، أحضروها من منطقة توفا الروسية ذي الجبال الحمراء، تم تخزينها مدة أربع سنوات في الجزء الخلفي لمستودع القاطرات، بمجرد أن فحص دييف مقبض الباب حتى أصيب بالدهشة، لم تكن عربة القطار مجرد عربة عادية، إنها تشبه كنيسة متنقلة، الأمر الذي يفسر بلا شك سبب بقاء التراب الملتصق بها لفترة طويلة، من الصعب جدا التأكد من أن هذه العربة كانت تلبي الاحتياجات السوفيتية، بالطبع يستطيع دييف إزالة اللون البرونزي الضارب إلى الأخضر من فوق القبة وتفكيك موضع القداس، ولكن ماذا عن النوافذ المقوسة أسفل تلك الحافة الحمراء؟ وماذا عن السقف التي تم تشكيله كبرج للكنيسة؟
قبِل دييف بعربة القطار التي تتميز بشيء واحد فقط: سعتها الكبيرة، يسأله كبير النجارين وهو يتفحص السقف المرتفع جدا بإعجاب: كم سيكون عدد طوابق الأسِرَّة؟ ردّ عليه دييف: ثلاث طوابق فقط. يمكن عمل أربعة طوابق، لكن من المؤكد أن الأطفال يشعرون بالخوف من التسلق الى الأعلى.
وصلت عربة القطار المخصصة للطبخ بعد بضعة أيام من منطقة سيمبيرسك، إنها تشبه الصندوق الكبير المثبّت على عجلات، تم صناعتها بسرعة من ألواح خشبية مستوية، تم بعد ذلك تزويدها بألواح خشنة مثبتة في رقائق خشبية، برزت زاوية مدخنة الموقد من كوة في السقف. يقال انه منذ عام 1919، توجد نفايات كثيرة ملقاة على طرق السكك الحديدية في منطقة سيمبيرسك، كان من الممكن أن يعثر دييف على أشياء مفيدة هناك، لكن لم يكن لديه الوقت الكافي للذهاب وفحصها.
أخيرا، تم الاتفاق على خمس عربات من قطار ركاب قادم من موسكو لكي تنضم إلى قافلة دييف، التي سبق أن أطلق عليها عمال السكك الحديدية فيما بينهم اسم «مزهرية الورد»، بسبب تنوع ألوانها وأشكالها، لم تكن عربات القطار الخمس الأخيرة ذات الدرجة الثالثة المخصصة للنوم بحاجة إلى أي أعمال نجارة، الا أن رائحة سجائر كريهة تنبعث منها، بدت قذرة للغاية، أصبح من الضروري غسلها جيدًا، ولأن إدارة المحطة شعرت بالملل من عبارات دييف المتكررة («على الفور» «الآن» «بدون أخطاء») فلم يزودوه بعمال النظافة. عندئذ توقف دييف عن إلحاحه في الطلب وأخذ دلوين من الماء وبدأ التنظيف بنفسه.
** **
- د.أيمن منير