يجلس الطفل في الغرفة وحيدا وعلى الطاولة أمامه تتوهج قطعة حلوى المرشملو بالإغراء. ينظر إلى المرشملو بلهفة. وتنبسط كفه لكي تقبض على الحلوى اللذيذة، لكنها ما تلبث أن تنقبض، فهو يريد أن يأكلها الآن، لكن شيئا ما يجعله يحجم ويجبره على الانتظار. وعلى الوجه البريء ترتسم علامات الصراع الشديد، وتمر دقائق وثواني الانتظار على الطفل، وكأنها دهور، لكنه يصمد ويلجأ لشغل نفسه وتمضية فترة الانتظار الثقيلة، حتى يدلف أخيرا مساعد البروفيسور وولتر مايكل إلى تلك الغرفة في مختبر عالم النفس الشهير، في جامعة ستانفورد، لكي يريح الطفل الصبور ويخبره بأنه قد نجح في الاختبار وأنه سوف ينال مكافأته الموعودة: قطعتان اثنتان من الحلوى الشهية بدلا من الواحدة التي صبر عنها.
أجرى البروفيسور وولتر مايكل هذه التجربة التي اشتهرت وذاع صيتها بعد ذلك باسم «اختبار حلوى المرشملو» في سبعينيات القرن المنصرم، في جامعة ستانفورد العريقة بهدف دراسة قوة الإرادة لدى الأطفال وتبعاتها على مستقبلهم. وبعد عقود من المتابعة والتمحيص، خلص هذا العالم إلى أن الأطفال الذين يغالبون إغراء التهام قطعة الحلوى الواحدة، عاجلا، رجاء أن يحظوا بمثليها لاحقا، يحظون غالبا بحياة مستقبلية أفضل من حيث الإنجاز الأكاديمي، والصحة وغيرهما من الاعتبارات.
استدعى كاتب هذه السطور هذه التجربة المشهورة وهو يعيد قراءة كتاب البخلاء للجاحظ، ذلك الكتاب الذي استمتع بقراءته الأولى في زمن الصبا، ووجد فيه المتعة وفكاهة التندر وعثر فيه حينئذ على ما أراده كاتبه من «تبين حجة طريفة، أو حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه إذا شئت وفي لهو إذا مللت الجد». لكن ما الذي وجد فيه كاتب هذه السطور عند قراءته له تارة أخرى بعد مرور عقود من الزمان، جرت فيها تحت جسور الحياة مياه تجارب ومعارف مختلفة، معظمها في مجال العلوم الطبيعية التي يتخصص فيها. اسمح له عزيزي القارئ بأن يشاركك بعض هذه التأملات.
لنعد في البداية لتجربة وولتر مايكل في ستانفورد عن اختبار حلوى المرشملو ونستحضرها ونحن نقلب في صفحات البخلاء حتى نعثر على قصة الكندي، الذي يخبرنا عنه الجاحظ، أنه كان يخاطب «عياله وصبيانه» فيقول:
«اصبروا عن الرّطب عند ابتدائه وأوائله، وعن باكورات الفاكهة. فإن للنفس عند كل طارف نزوة، وعند كل هاجم بدوة، وللقادم حلاوة وفرحة، وللجديد بشاشة وغرة، فإنك متى رددتها ارتدت، ومتى ردعتها ارتدعت. والنفس عزوف، ونفور ألوف، وما حملتها احتملت وإن أهملتها فسدت. فإن لم تكف جميع دواعيها، وتحسم جميع خواطرها، في أول ردة، صارت أقل عددا وأضعف قوة (...) حتى تنقضي أيام الفاكهة وأنت على ابتداء حالك وعلى أول مجاهدتك لشهوتك (...) فاضمنوا لي النزوة الأولى، أضمن لكم تمام الصبر وعاقبة اليسر، وثبات العز في قلوبكم والغنى في أعقابكم; ودوام تعظيم الناس لكم.» ألم يلخص الكندي هذه التجربة، ذائعة الصيت، ويسبق عالم ستانفورد المشهور إلى نفس الخلاصة «اضمنوا لي النزوة الأولى، أضمن لكم تمام الصبر (...) وثبات العز (...) والغنى في أعقابكم; ودوام تعظيم الناس لكم». أحسب أن الإجابة هي نعم.
نواصل تقليب هذا الكتاب فنجد فيه غير قليل من النوادر عن الأشحاء الذين يقتصدون في أمر الملابس. خذ عندك مثلا حديثه عن ليلى التي «ما زالت ترقع قميصا لها وتلبسه، حتى صار القميص الرقاع (...) وسمِعت قول الشاعر:
البس قميصك ما اهتديت لجيبه
فاذا أضلك جيبه فاستبدل
فقالت: إني إذن لخرقاء، أنا -والله- أحوص الفتق وفتق الفتق، وأرقع الخرق، وخرق الخرق».
ونجد في هذا الكتاب أيضا « وقالوا لا جديد لمن لا يلبس الخلق. وبعث زياد رجلا يرتاد له محدثا، واشترط على الرائد أن يكون عاقلا مسددا، فأتاه به موافقا، فقال: أكنت ذا معرفة به؟ قال: لا ولا رأيته الا قبل ساعة (...) قال فلم اخترته على جميع من رأيته؟ قال: يومنا يوم قائظ، ولم أزل أتعرف عقول الناس بطعامهم ولباسهم في مثل هذا اليوم، ورأيت ثياب الناس جددا وثيابه لبسا، فظننت به الحزم».
وفيه كذلك حكاية عمن قال «أشهد أن الرفق يمن، وأن الخرق شؤم. اشتريت ملاءة مذارية فلبستها ما شاء الله رداء وملحفة. ثم احتجت الى طيلسان فقطعتها-يعلم الله- فلبسته ما شاء الله. ثم احتجت الى جبة فجعلته-يعلم الله-ظهارة جبة محشوة، فلبستها ما شاء الله. ثم أخرجت ما كان فيها من الصحيح فجعلته مخاد، وجعلت قطنها للقناديل. ثم جعلت ما دون خرق المخاد للقلانس، ثم عمدت الى أصح ما بقي فبعته من أصحاب الصينيات والصلاحيات (...) وجعلت السقاطات وما قد صار كالخيوط وكالقطن المندوف صمائم لرؤوس القوارير».
ما تزال قصص هؤلاء المقترين الذين لا يفرطون في قطعة قماش ولا تطيب نفوسهم برمي كساء حال لونه وتآكلت أطرافه تثير في نفوسنا التندر والتعجب، لكن ا لتنقيب تحت طبقة الفكاهة هذه يكشف لنا عن حكمة في الاقتصاد وفي إعادة التدوير، يحتاجها عالمنا اليوم أشد الحاجة. بل إن عين ما يباهي به هؤلاء البخلاء المذمومون هو ما تقترحه وكالات الأمم المتحدة والجهات المعنية الأخرى في عالم اليوم، للتعامل مع تبعات فيضان ما يسمى بالموضة السريعة التي أغرقت العالم في أكوام من القماش. فصناعة الموضة مسؤولة بحسب تقرير لإذاعة البي بي سي عن 10% من انبعاثات الغازات المتسببة في التغيير المناخي، وعن 20% من مياه الصرف الصحي، كما أنها تستهلك في المجمل مقدارا من الطاقة يفوق ما تحتاجه صناعتا الطيران والشحن مجتمعتين. ولقد يثور في نفسك العجب لو علمت أن الأمم المتحدة تقدر أن إنتاج قطعة واحدة من ملابس الجينز، يستهلك كيلوجرام من القطن، الذي يحتاج الى ما يعادل قرابة عشرة آلاف لتر من الماء لكي يبلغ أشده، ويكافئ ذلك ما يشربه الفرد من مياه خلال عشرة أعوام كاملة! فبم إذن يوصينا الخبراء للتعامل مع هذا الاستهلاك غير المستدام الذي يثقل كاهل كوكبنا. إليك بعض هذه التوصيات «الحديثة»: اشتر عددا أقل من الملابس، لا تتحرج من شراء الملابس المستعملة «المغسولة جيدا بطبيعة الحال، لا تتحرج من ارتداء الملابس ذاتها، مرات ومرات، ولا من إصلاح ملابسك القديمة. وبالجملة، لا تسرف في شراء الملابس وحافظ على ما لديك منها. لا يملك المرء الا أن يتخيل بخلاء الجاحظ هؤلاء وهم يهزون رؤوسهم موافقة على هذه التوصيات.
نواصل تقليب صفحات البخلاء، فتقع عيننا على الثوري وهو يوصي أولاده بأن « لا تلقوا نوى التمر والرطب، وتعوّدوا ابتلاعه، وخذوا حلوقكم بتسويغه. فإن النوى يعقد الشحم في البطن، ويدفئ الكليتين بذلك الشحم. واعتبروا ذلك ببطون الصفايا وجميع ما يعتلف النوى. والله لو حملتم أنفسكم على البزر والنوى، وعلى قضم الشعير واعتلاف القت لوجدتموها سريعة القبول. وقد يأكل الناس القتّ قدّاحا، والشعير فريكا، ونوى البسر الأخضر، ونوى العجوة. فإنما بقيت الآن عليكم عقبة واحدة؛ لو رغبتم في الدفء لالتمستم الشحم؛ وكيف لا تطلبون شيئا يغنيكم عن دخان الوقود، وعن شناعة السكر، وعن ثقل الغرم. والشحم يفرّج القلب. ويبيّض الوجه. والنار تسوّد الوجه؛ أنا أقدر أن أبتلع النوى وأعلفه الشاء. ولكني أقول ذلك بالنظر مني لكم.» ترى هل كان الثوري محقا وهو يمدح فضائل نوى التمر ويحاول أن يحمل أبناءه على تجريب أكل غير المألوف؟ الإجابة موجودة في بحث نشره باحثون عمانيون في دورية عالمية محكمة في مجال أنظمة الغذاء المستدامة، لخصوا فيه ما نشر عن استخدام نوى التمر في الغذاء، وذكروا أن النوى ذو تكوين غذائي نفيس، فهو مصدر للكربوهيدرات، والألياف الغذائية، والبروتين والزيوت، ومضادات الأكسدة الطبيعية، والفينولات المتعددة ذات النشاط الحيوي، لكنه ما يزال غير مستخدم بما فيه الكفاية.
في الختام، هذه الفوائد المتناثرة في كتاب البخلاء والتي عرضنا لها في هذه المقال، ليست سوى حبات من بستان عامر، تشمل قطوفه الأخرى الاقتصاد في الماء، والكف عن هدر الطعام، وغيرهما من المواضيع ذات الراهنية، التي تعرض لها كاتب هذه السطور في مواضع أخرى. ولعل النقطة الأهم من طرح هذه التأملات هو أن كاتبها يضم صوته الى المنادين بإعادة قراءة كتب التراث ليس من أجل اللغة والمتعة فحسب، بل لأنها تضم في ثناياها الكثير من الحكمة وربما طرفا من الحلول لغير قليل من قضايا عالمنا المعاصر. لا يعني هذا طبعا أن نعرض عن مصادر المعرفة الغربية، فالحكمة ضالة المؤمن، لكني أرجو ألا يكون مصير هذه الكتب التراثية القيمة ومآل كتابها هو ما انتهى اليه أسد بن جاني الذي يخبرنا الجاحظ في البخلاء بأنه «»كان طبيبا فأكسد مرة؛ فقال له قائل: «السنة وبئة والأمراض فاشية، وأنت عالم ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة، فمن أين تؤتى في هذا الكساد؟ قال: أما واحدة فإني عندهم مسلم؛ وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبّب، لا بل قبل أن أخلق، إن المسلمين لا يفلحون في الطب. واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليبا وجبرائيل ويوحنّا وبيرا؛ وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى، وأبو زكريا، وأبو إبراهيم؛ وعليّ رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون ردائي حريرا أسود؛ ولفظي لفظا عربيّا وكان ينبغي أن تكون لغة أهل جندي سابور».
** **
- د.صديق عمر الصديق عبد الله - الأستاذ بجامعة كزافييه في لويزيانا، نيو أورليانز، لويزيانا بالولايات المتحدة الأمريكية