لم تكن طفولة توفيق الحكيم (1898 – 1987م) مثل أقرانه الصغار، فلم يكن يعشق اللهو والمرح، كان لديه خيال خصب يذهب به بعيداً في دنيا الأدب والفن، ولذا كان يعشق قراءة الروايات العالمية منذ نشأته، ولهذا فقد كانت تصرفات هذا الصبي الصغير تقلق والديه كثيراً، لقد حاول أبوه جاهداً أن يبعد ابنه الصغيرعن سخافات الأدب كما يراها من وجهة نظره، لكن جهوده تاهت في السراب، فقد تشرب الطفل المشاكس والعنيد عشق الأدب والفن حتى الثمالة، ولا يمكن لأي أحد أن يصرفه مهما كانت الأسباب عن هوايته المفضلة وشغفه الذاتي، وفي إحدى ليالي البرد القارسة حاول الطفل الصغير أن يخفي معالم جريمته عن والديه، كانت تلك الجريمة عبارة عن رواية غربية استعارها من أحد زملائه في المدرسة، فقرر الحكيم أن يندس ومعه روايته العزيزة إلى قلبه تحت السرير، وهناك أشعل شمعة يقرأ على نورها الخفيف، وقد أصبحت هذه الطريقة عادة يومية لدى الحكيم كلما وجد مسرحية جديدة لشكسبير أو رواية لتشارلز ديكنز أو فيكتور هوجو، ويقول الحكيم أنه ذات مرة وبينما هو منهمك في قراءة إحدى الروايات سمع نداء والدته وهي تطلب منه القدوم للعشاء، فاضطر أن يخرج من تحت سريره ويذهب سريعاً نحو نداء الدته، لكنه من شدة الاضطرار نسي أن يطفئ نور الشمعة المخبأة تحت السرير، وبينما العائلة منهمكة في تناول طعام العشاء بدأت رائحة الحريق تغزو المكان بلا استئذان، ودب الذعر والخوف بين أفراد العائلة، وهب الجميع يبحثون بين زوايا المنزل عن مصدر الحقيقة، وما هي إلا دقيقة واحدة حتى أدركوا أن ألسنة اللهب تتدفق من غرفة الطفل المشاكس توفيق، وبعد أن تم الإطفاء وتنفست العائلة الصعداء، بدا لتوفيق ألا مفر من الاعتراف بجريمته النكراء، وهنا سامحه والده عن ذلك، لكنه أخذ منه وعداً بألا يكرر هذا السلوك، وأن يتفرغ لقراءة دروسه المدرسية بدلاً من تلك الروايات!!.
هذه الحكاية التي رواها توفيق الحكيم في إحدى مقالاته تعكس لنا مدى تعلق هذا الأديب الكبير بالثقافة والأدب والفن، وحتى تستقيم الرؤية حول شخصية الحكيم وعلاقته الشغوفة بفنه وأدبه علينا أن نتساءل عن استجابة الحكيم لمطالب أسرته حول قراءاته الحرة، فهل انقاد نحو رغبة والده؟ كلا ، لقد عاد بعناده الشخصي وبدأب شديد وحرص عجيب وولع مدهش تجاه مسرحيات شكسبير والذي يعتبره ملهمه الأول في فن المسرح، هذا الفن الذي تخصص وأبدع الحكيم فيه، وكان يعتبره بدون أي نقاش أبو الفنون جميعاً.
كان والد الحكيم يحلم أن يرى ابنه محامياً لامعاً يترافع في القضايا بين أروقة المحاكم في القاهرة، فقد كانت مهنة المحاماة في ذلك الوقت علامة على أرستقراطية الأسر وجودة تعليمها وعلو مكانتها في المجتمع، لكن شغف الابن بالأدب وتعلقه بالفن كان يتعارض بشدة مع رغبة أبيه، وتحت ضغط الأسرة قرر توفيق أن يستجيب لرغبة والده ويدرس الحقوق، وبصعوبة بالغة وبدون شغف انتهى من بكالوريوس الحقوق، وحتى يتقن المحاماة تماماً، قرر والده أن يبتعثه إلى باريس معقل القوانين الوضعية حتى يكمل درجة الماجستير في القانون، لكن الشاب العنيد وجد في باريس عاصمة النور مبتغاه ، فلم يهتم كثيراً بحضور المحاضرات في الجامعية، بل كان يزور مقاهي باريس التي كانت حينها تكتظ بعمالقة الفكر والفن والأدب، وكان يقضي وقته أيضاً بين رفوف المكتبات العامة والخاصة، يتصفح الكتب ويقرأ المجلات الثقافية والأدبية وينظر إلى مقالات كبار المثقفين الفرنسيين في الصحف اليومية، كان يفعل كل ذلك بصورة يومية وهو واقف لأنه لا يملك ثمن الكتاب أو الصحيفة!!.
وبعد أن عاد الحكيم إلى القاهرة، رجع إلى والديه وهو خال الوفاض من شهادة الماجستير بيد أنه قرر أن يتجاوز رغبة والده، وأن يحقق حلمه الشخصي وطموحه الذاتي، فقرر أن يتفرغ للأدب والكتابة، وبالفعل نجح توفيق الحكيم في حلمه، وأصبح عن جدارة أحد أشهر كتاب ومثقفي العرب في العصر الحديث.
الجزء الثاني من المقال يتعلق بالسمة التي اقترنت بشخصية الحكيم وارتبطت بها طيلة حياته التي كادت أن تلامس التسعين عاماً، هذه السمة هي البخل والحرص، ومن الجدير بالقول إن الحكيم قد كان فاكهة الأدباء والمثقفين في زمانه، ويذكر عنه كثيراً أنه كان لا يتضايق عندما يصفه أحد بذلك، بل على العكس تماماً كان يجد في ذلك متعة ذاتية، وأكثر الأدباء الذين كتبوا عن بخل الحكيم وحرصه هو الكاتب الأستاذ أنيس منصور( 1924- 2011م ) ، والذي خصص مجموعة مقالات ظريفة تتحدث عن هذه الخصلة التي ارتبطت مع شخصية الحكيم، يقول أنيس منصور أنه ذكر ذات مرة بخل الحكيم عند الدكتور طه حسين (1889 – 1973م) ، فعلق قائلاً: لو تأملت شخصية الحكيم، فلن تجده بخيلاً، كل ما في الأمر أنه كان فقيراً، وهذا الفقر يجعله حريصا جداً!!.
يذكر أنيس منصور أ نه تعرف على توفيق الحكيم لأول مرة في الشارع وكان اللقاء بالصدفة، يقول أنيس: رأيته وكان يريد أن يعبر أحد شوارع القاهرة، كان ينظر يميناً ويساراً، ثم جرى بسرعة مع أن الشارع خال تماماً، فنحن في يوم السبت بعد الظهر، مشى توفيق الحكيم يتخبط بين الناس في السوق، ولا يلتفت إلى أحد ولا يلتفت إليه أحد، ثم توقف عند بائع المشمش، وبعد حوار طويل مع البائع تمكن الحكيم أن يأخذ المشمش بسعر أقل، وهنا اقترب أنيس منصور منه، وقال : سأحمل عنك يا أستاذ، فقال الحكيم: وهل تعرفني؟!! ، فرد أنيس سريعاً: نعم أعرفك يا أستاذ، وهنا تهللت أسارير وجه الحكيم، فناوله المشمش ومعه العصا، ثم أمسك بذارع انيس منصور حتى وصل إلى منزله، مخافة أنه يهرب عنه !!.
يقول أنيس منصور أنه سأل ذات مرة الروائي إحسان عبد القدوس ( 1919 – 1990م ) عن بخل الحكيم ، فكان رده أن المهم عند الحكيم أن يكون ذكره على كل لسان، حتى وإن كان الحديث حول بخله الشديد، ووجه أنيس منصور ذات السؤال للشاعر كامل الشناوي (1908 – 1965م ) فقال: لقد وجه إلي الحكيم نصيحة أعجبتني، قال لي: أن تكون بخيلاً أفضل من أن تمد يدك إلى البخلاء!!.
اشتهر الحكيم بظرافة القول، وله في ذلك حكايات عديدة، ومنها ما رواه الأستاذ أنيس منصور الذي قال: سألني توفيق الحكيم ذات مرة: هل تغديت عند العقاد ذات يوم؟ قلت:لا، قال: وهل تعشيت؟ قلت:لا، قال: ولا عند طه حسين؟ قلت: لا، قال: سبحان الله ، ومع ذلك لا أحد يصفهم بالبخل مثلما تصفوني أنا!!، ثم نظر إلى أنيس منصور، وقال: وماذا تقول إذا عرفت أن هناك أشخاصاً تغدوا وتعشوا في بيتي، ومنهم: إحسان عبدالقدوس وكامل الشناوى ومحمد عبد الوهاب!.. يقول أنيس منصور: وعندما سألت الثلاثة، قالوا: الحكيم وعدنا ولكنه لم يفِ بوعده، عدت إلى الحكيم أقول له: إنك وعدتهم ولكن أحداً لم يدخل بيتك!،، فأجاب : طيب هل وعدك العقاد؟ قلت: لا ،، قال: وهل وعدك طه حسين؟ قلت: لا، فقال: أنا وعدت وهذه مرحلة، والمرحلة القادمة سيكون الغداء، ولن تأتي هذه المرحلة أبداً!!.
ويقول أنيس منصور أنه عندما كان رئيساً لتحرير مجلة آخر ساعة، طلب من توفيق الحكيم أن يكتب عنده في المجلة، فوافق الحكيم بمرتب مائة جنيه، واشترط أن يكون القبض مقدماً، فتمت الموافقة على ذلك، وعندما بدأ أنيس منصور يكتب سلسلة مقالات في صالون العقاد كانت لنا أيام، توقف الحكيم عن الكتابة، استغرب أنيس منصور عن ذلك، وعندما سأله عن السبب، كان رد الحكيم: يا سيدي، لقد صعدت مقالاتك بالعقاد حتى السماء، وأنا مثل الأراجوز بمائة جنيه، فقال أنيس منصور: الأمر في سعة، سنضاعف لك الأجر يا أستاذ، ابتسم الحكيم في وجه أنيس منصور، وقال: ولا بألف جنيه!!. ، وهنا عرف أنيس منصور أن مقالاته عن العقاد (1989 – 1964م) قد أصابت الحكيم بصدمة نفسية، وقد تأكد من ذلك عندما قال له: إن المقال الواحد الذي تكتبه عن العقاد يساوي كل ما كتبت عنه في أي وقت، أما أنا فليس لي تلاميذ مثلك يقيمون لأستاذهم عرشاً في دنيا الأدب، وهنا قرأ أنيس منصور علامات الحزن العميق على وجه الكاتب الكبير، فقال له: هل اقترح عليك موضوعاً آخر؟ ، فرد الحكيم : أعرف الموضوع، ستقترح علي أن أكتب وصيتي، وأن تكتب عني مثل هذه السلسلة، وأن أقرأها قبل أن أموت، فقال أنيس منصور: أتمنى هذا الشرف يا أستاذ، لكن الأستاذ كان يدرك أن منيته قد اقتربت، وساعة رحيله قد أزفت، فقال : لا أعتقد ذلك.
وفي الختام: إن كان الحكيم بخيلاً كما يقول عنه من عرفوه في عصره، فقد كان كريماً في ثقافته وفنه إلى حد الإسراف، وسخياً في كتبه ومسرحياته وإبداعاته التي ما زالت تثير فينا معاني سامية من الإحساس بالجمال والذوق الفني حتى اليوم.
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814