قرأت قبل أيام ما كتبه مؤلِف العبقريات «عباس العقاد» عن انطباعاته بعد مقابلة الملك عبد العزيز 1946م، وكان ممَّا قال:
«إذا عرفتَ الملك عبد العزيز ثلاثة أيام، فكأنك قد عرفته ثلاث سنوات، أو لازمته في أطول الأوقات».
وقرأت ما دار بينه وبين أبناء الملك عبد العزيز، في تلك الرحلة التي قال عنها:
«وممَّا اغتبطت به كثيرًا، أنَّ صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد العزيز، -وهو لم يبلغ السادسة عشرة بعد- تفضل فأهدى إليَّ نسخة قديمة من جريدة «الحرم» لصاحبها الشاعر الفاضل الأستاذ فؤاد شاكر، صدرت قبل مولد سموه بسنة، وفيها قصيدة لي، وصورة من صور أيام الشباب كدت أنساها.
وسألني: هل تسرك هذه المفاجأة؟
قلت: كل السرور.
فكتب على الصفحة التي فيها القصيدة «أقدم للأستاذ الكبير، الكاتب الجبار عباس محمود العقاد قصيدته هذه للذكرى، ووقع عليها بهذا التوقيع «متعب بن عبد العزيز»، ويضيف العقاد: وقد تناول أخوه الأمير مساعد نسخة الصحيفة، وقرأ منها القصيدة قراءة صحيحة واضحة، معقبًا عليها بعد الانتهاء من قراءتها بهذه الكلمة الكريمة: «معان قوية».
وأنا أتصفح وأتأمل ما كتبه أحد أهم كتَّاب القرن العشرين، لمعت في ذهني صور وأسئلة عن العلاقة المبكرة بين آل سعود وبين الأدباء والمثقفين والمفكرين، وعن الوعي الحداثي المبكر، وعن نظرة هذه الأسرة المباركة لأصحاب القلم والرأي، وعن احتفاء الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- (عندما كان وزيرًا للمعارف) بعميد الأدب العربي طه حسين في مدينة جدة عام 1374 هـ، واستقبال الملك سعود -رحمه الله- له، وعن المكتبة الأولى التي أنشأها الأمير مساعد بن عبد الرحمن -رحمه الله- عام 1363هـ، في بيته بمدينة الرياض، وأتاحها للجميع، وعن الرؤى الحضارية التي سبقت عصرها، وعن الوعي الأدبي، وعن طموحٍ لا حدود له من قِبل المؤسس العظيم.
فمن تلك المواقف التي تدل على عبقريته وطموحه العظيم، ونباهته وسرعة بداهته وعلو همته، ما رواه «أمين الريحاني» من أنَّ الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- أثناء بناء قصر المربع، لاحظ أنَّ البنَّاء نقش على مدخل قاعة الاستقبال هذين البيتين:
«لَسْنا وإنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنا
يوْماً على الأحْسابِ نتَّكِلُ
نَبْني كما كانت أَوَائِلُنا
تَبْني ونَفْعَلُ مثْلَ ما فعلوا»
وطلب الملك عبد العزيز من البنَّاء أن يعدل البيت الثاني، ليكون:
»نبني كما كانتْ أوائلُنا
تبني ونفعلُ (فوقَ) ما فعلُوا»
وعن هذه القصة ذات الدلالة الرمزية، يقول الدكتور «عبد الله الغذامي» في كتابه الشهير (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية): «هذا وعيٌّ دالٌّ يكشف عن حسٍّ ذاتيٍّ بالدور المطلوب، يلتقط حسَّ المرحلة وشرطها، ويعي أنَّ المجد القديم هو لأصحابه الذين صنعوه، وأنَّ على الحاضرين أن يؤسسوا لمجد لا يماثل الماضي، بل يجب أن يفوقه ويتجاوزه، وهذا هو التجديد الواعي ..»
عندما بدأت أقرأ الصحف استوقفني تفاعل الملك سلمان -حفظه الله- حينما كان أميرًا للرياض - مع ما يُنشر، وهذا ما يؤكده الكاتب اللبناني «سمير عطا الله» في إحدى مقالاته، بقوله:
«لم يعطِ زعيم عربي الصحافة من الاهتمام ما أعطاها الملك سلمان بن عبد العزيز. كان يتابع اتجاهاتها وكتَّابها وأوضاعها، أولًا، كرجل دولة معنيٍّ بتأثير الإعلام، وثانيًا، كرجل ثقافة شغوف بكافة المعارف. وفتح أبوابه أمام عدد من كتَّاب مصر وفلسطين ولبنان، وكان يصل أحدهم بعد عام على صدور مقال معين له، فيجد الملك سلمان يحدثه عنه، استحسانًا أو نقاشًا».
قبل مدة قصيرة، وفي هذه المجلة الثقافية المتجددة، نشر المشرف عليها الزميل والصديق الدكتور «محمد بن عبد العزيز الفيصل» تقريرًا كاملًا عن «المكتبة الملكية»، مكتبة الملك سلمان بن عبد العزيز، وممَّا جاء فيه:
«تصنف مكتبة الملك سلمان بن عبد العزيز أنَّها المكتبة الأضخم والأكبر بين مكتبات الزعماء على مستوى العالم، حيث تتجاوز عنوانات المكتبة مليونا ومئة وسبعين ألف عنوان ومجلدا في مختلف العلوم والمعارف».
الحقيقة أنني شعرت بنشوة من الفخر عندما غردت بهذا المقتطف وهذه المعلومة، وكأنَّني أقول لمن يتابعني من مثقفي العالم العربي: هذا زعيمنا وهذا ما أوصانا به في إحدى محاضراته:
«القراءة القراءة.. أنصح أبناءنا أن يكثروا من القراءة، وأن يعمقوها حتى تتسع أفكارهم..».
وفي مقابلات سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان –حفظه الله - التلفزيونية، التي أدهشت العالم من المحيط إلى المحيط، حيث ظهرت فيها عبقريته، وحنكته السياسية والاقتصادية، ونبوغه الفكري والمنطقي، كنت أقول في نفسي: «من يملك هذه اللغة العصرية وهذه الدقة في اختيار الألفاظ هو بالضرورة قارئ حقيقي، ولا عجب فهو من مدرسة سلمان بن عبد العزيز»، وهذا ما تبين -أيضًا - من مقابلة تلفزيونية مع رمزنا الثقافي الكبير «عبد الله الغذامي»، الذي ذكر في تغريدة سابقة له:
«التقيت بالأمير محمد بن سلمان 2016
قبل إعلان الرؤية ب 3 أيام
وخصني بجلسة منفردة لساعتين
وأول ما استقبلني قال لي:
قرأت كتابك (حكاية الحداثة في المملكة) فور صدوره.
واستعاد مواقف من ذاكرته عن الكتاب ..
وأدهشني يومها بحضوره الذهني وسرعة بديهته ونباهته مع التساؤلات».
فهذه التغريدة القصيرة تؤكد ما نعرفه جميعًا عن أميرنا الملهم، وتبيِّن ما يلي:
1- أنَّ الأمير محمد بن سلمان من أصحاب القراءة الحرة..
2- تقدير الأمير محمد بن سلمان للأدباء الكبار وحفاوته بهم، وهذا ما بيَّنه «الغذامي» في المقابلة التلفزيونية، ففي اليوم الذي استقبل فيه «جون كيري» (وزير خارجية أميركا حينها) استقبل الغذامي في الموعد المحدد بكل حفاوة، وخصَّه بجلسة منفردة.
3- اختار الأمير محمد بن سلمان كتابًا نوعيًّا ومهمًا لمبدع عاش حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، وكأنَّه أراد من خلال هذا الكتاب أن يقرأ بعض ملامح الماضي والحاضر والمستقبل.
وما أعظم الدولة التي تولي الثقافة اهتمامها، ويُعرف مسؤولوها بالقراءة الجادة والثقافة العالية..!
فالثقافة العميقة هي الواجهة المضيئة للأمم المتقدمة، وحينما يكون مسؤول الدولة على درجة عالية من الثقافة فهو بالتأكيد سيحارب التخلف، والظلامية، والتعصب، والكراهية للآخر، والعنصرية..
ذات مرة.. تساءلَ الشاعر والكاتب «علي الأمير» قائلًا: «يا ترى أيّ مصيرٍ كان ينتظر الأغنية السعوديّة، لو لم يقيِّض لها شعراء أمراء من آل سعود بوزن شاعر الأمراء وأمير الشعراء الأمير خالد الفيصل، ومهندس الكلمة الأمير بدر بن عبد المحسن، في زمن كنا نشاهد فيه الآلات الموسيقية، تُكسَّر فوق رؤوس أصحابها، ويُشنَّع بكل من يُقبض عليه متلبسًا بالغناء في الأماكن العامة..؟».
في قائمة «الأمراء الشعراء من آل سعود» الذين كتبوا العديد من الروائع الغنائية مع بداية تشكل الأغنية السعودية، فشكلوا بها طوق نجاة للأغنية السعودية؛ لا يمكن أن يُنسى الدور العظيم الذي قام به صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبد العزيز -رحمه الله - في هذا المجال، والعديد من المجالات التي تخدم الأدب والإبداع..
وسأوسِّع سؤال «علي الأمير» بشكل أكبر؛ إذ كيف سيكون المشهد الثقافي السعودي بشكل عام (الملاحق الأدبية، حركة التأليف، المحاضرات الثقافية، الأندية الأدبية،)، وما هو مصير أصحاب القلم التنويري الذين واجهوا التشدد بالفكر الواعي، وفي مقدمتهم «غازي القصيبي» ؟!..لو لم تكن نظرة آل سعود لأهل الفكر والثقافة والإبداع والجمال نظرة رقيٍّ تختلف عن عموم نظرة المجتمع في تلك المرحلة..!
هذه النظرة الحصيفة تجلت في كلمة صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سعد بن عبد العزيز أمير منطقة حائل في حفل إطلاق جمعية الأدب، والتي كانت بحق كلمة ذهبية أدبية رفيعة المستوى، وما قاله الأمير المثقف عن الدكتور «عبد الله الغذامي» يكتب على الجبلين (أجا وسلمى) بماء الذهب ..
والحقيقة أن هذه المساحة القصيرة لا تكفي للحديث عن (جائزة الملك فيصل العالمية)، التي تحظى برعاية ملكية ولا تقل في أعين المنصفين عن جائزة نوبل العالمية..، ولا عن (مهرجانات الجنادرية) التي حظيت برعاية ودعم الملك عبد الله بن عبد العزيز-رحمه الله – حيث فتحت نوافذ الجمال والأصالة نحو تراثنا الشعبي والثقافي والفني على مدى تاريخ طويل..، ولا عن (المشاريع الثقافية) التي دعمها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله - في سبيل نشر العلوم والمعارف والكنوز الأدبية..
ولا عن (مؤسسة الفكر العربي) التي رعاها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل على مدى سنوات، فقد بثت رسائلها التنويرية والسامية في كل اتجاه..، ولا عن شعلة النشاط الثقافي التي يديرها سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، في مرحلة تشهد نهضة ثقافية وفنية وقفزات نوعية في كل المجالات..، ولا عن أمراء من آل سعود عُرفوا بثقافتهم الواسعة، وقربهم من الأدباء وعنايتهم بالمثقفين، ومنهم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد -رحمه الله - وصاحب السمو الملكي عبد العزيز بن سلمان. .، ولا تكفي هذه المساحة -أيضًا - للحديث عمَّن أضاءوا المشهد الثقافي والإبداعي بإبداعاتهم وتجلياتهم، ومنهم صاحب الروائع الخالدة، صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل -رحمه الله - ..، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الرحمن بن مساعد، الذي يشهد له تمكنه من الشعر الفصيح بالبلاغة، وتشهد له الإجابات المدهشة بالنجابة وحسن المنطق، سُئل ذات مرة:
من هو الأمير؟
فقال: «الأميرُ شخصٌ اكتسب لقبه من غير جهدٍ منه، فينبغي عليه أن يبذل مجهودًا كبيرًا ليثبت أنَّه يستحقه..»
ولم أجد تعليقًا على عظمة هذا المنطق، أجمل من تعليق أستاذنا الدكتور «عبد الله الغذامي» الذي قال:
«شرف المعاني لا يدركه إلا ذو حظ عظيم، وهذا من شريف الفهم لشريف المعنى..»
أخيرًا:
ماذا لو كلفت دارة الملك عبد العزيز (فريقًا إبداعيًّا) بتوثيق حكايات الأدباء الكبار، وقصصهم مع زعماء المملكة العربية السعودية وأبناء الملك عبد العزيز، ونقلت الحكايات التي لم توثق من الشفاهية إلى التدوين، في كتاب يحوي -أيضًا - قصائد الأدباء والشعراء الكبار، يحضرني منها الآن القصيدة التي ألقاها «العقاد» أمام الملك عبد العزيز، والقصيدة التي ألقاها الشاعر الكبير «عمر أبو ريشة» أمام الملك فيصل ...، وقصيدة الشاعر «علي أبو العلا» التي ألقاها أمام الملك خالد، فأمر الملك في الحفل مباشرة بتأسيس جامعة أم القرى، إضافة إلى قصيدة الشاعر الفرساني «إبراهيم مفتاح» التي أبكت صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله - وغيرت وجه جزيرة فرسان...
في ظني سيكون من أفخم الكتب الموجَّهة إلى العالم أجمع...، ومن هذا التساؤل أنقل هذا المقترح للأمير المثقف، رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان عبد العزيز حفظه الله.
** **
- عبد العزيز بن علي النصافي الشلاحي