«حرب المعلومة» (تأليف دافيد كولون، صدر عن دار نشر تلانديي في حوالي 480 صفحة عام 2023).
دافيد كولون أستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس، باحث في مركز تاريخ العلوم السياسية، يُدرِّس تاريخ الاتصالات والإعلام والدعاية. عضو الفريق البحثي «الإنترنت والذكاء الاصطناعي والمجتمع» التابع للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، حصل على جائزة أكروبولي وجائزة جاك إيلول، نشر مؤخرا كتاب «أساتذة التلاعب.»
منذ نهاية الحرب الباردة وظهور الإنترنت، أدى إضفاء الطابع العسكري على المعلومات إلى اضطراب النظام الجيوسياسي على مستوى العالَم، لهذا فان العديد من الأطراف الفاعلة التي تعتمد على قوتها الناعمة تلجأ الى منظومة الحرب السيبرانية وأساليب التضليل المعلوماتي، وهي بهذا تستغل نظريات المؤامرة من خلال ما يتم بثه عبروسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مسرحا لحرب ضروس.
ولأن حرب المعلومات أصبحت بديلا عن الصراعات العسكرية الميدانية، ولأنها تُعتبر سلاحا يمكن استخدامه لأغراض تصب في صالح هذه الجهة أو تلك، فقد تحولت المعلومات الى وسيلة تخدم نفوذ العديد من الأطراف الفاعلة التي تهدف إلى حماية معلوماتها وفي المقابل إضعاف قدرات الأعداء المعلوماتية واستغلال أنظمتها والتشويش عليها أو تدميرها وفقا لاستراتيجيات وتكتيكات وآليات محددة.
تشير حرب المعلومات، وفقا للمعنى الدقيق للكلمة، إلى سلاح المعلومات الذي يلجأ اليه الأطراف الفاعلون باعتباره وسيلة يمكن استخدامها لأغراض عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو دبلوماسية. ولأن حرب المعلومات يُقصد بها استخدام جميع الوسائل المتاحة لأمة ما من أجل تحقيق أهدافها الوطنية، فإنها تعني أيضا وفقا للعبارة التي أطلقها الرئيس الصيني جيانج زيمان في عام 1993: «حرب بلا دخان».
في هذا الكتاب، يعتقد المؤلِّف الى أن الولايات المتحدة الأمريكية خرجت منتصرة من الحرب الباردة وأنها بتفوقها العسكري والتكنولوجي تُطبّق عقيدة الهيمنة على كافة المعلومات. ظهر هذا التفوق في الساحة الإعلامية، من خلال الثِّقل الكبير الذي تمارسه وكالات الأنباء ووسائل الإعلام-خاصة قناة CNN الإخبارية-في إنتاج المعلومات الإعلامية على المستوى العالمي. ففي بداية العصرالرقمي، كان التقدم في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كبيرا جدا لدرجة أن الولايات المتحدة الأمريكية جعلته أساسا لهيمنتها المعلوماتية على العالم من خلال مبدأ التدفق الحر للمعلومات والاتصالات وأيضا من خلال نشر النموذج الديمقراطي والليبرالي.
من جانب آخر، يعتقد زعماء الحزب الشيوعي الصيني أن لوكالة المخابرات المركزية دورا هاما في أحداث بكين عام 1989، كما أنهم يعتقدون أن تفكيك الحزب الشيوعي السوفييتي كانت نتيجة لحرب معلوماتية بقيادة أمريكا.ولذلك فرض الرئيس الصيني جيانج زيمان منذ عام 1993 موقفا دفاعيا يتمثل في إبقاء وسائل الإعلام الأمريكية خاصة والغربية بشكل عام على مسافة كبيرة من المواطنين الصينيين وكذلك في تعزيز وسائل السيطرة على المعلومات في الصين وتطوير ما يسمى بجدار حماية الصين الكبرى.
أما على الجانب الروسي، فقد عبَّر المنتسبون الى جهاز المخابرات الروسية عن رغبتهم القوية في مقاومة الهيمنة المعلوماتية الأمريكية. تم الحفاظ على المخابرات العسكرية (GRU)، في حين انقسمت وكالة الاستخبارات السوفييتية KGB، الى فرعين أحدهما مهتم بالأمن الداخلي ومكافحة التجسس وجمع البيانات الكهرومغناطيسية(FSB) والآخر يهتم بالاستخبارات الأجنبية (SVR). واصل الفرعان أعمالهما، مع نفس العدو الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية، وبنفس العقيدة وبنفس الأهداف. عندما تولى فلاديمير بوتين، الذي ينتمي الى وكالة الاستخبارات السوفييتية (KGB)، رئاسة جهاز الأمن الفيدرالي في عام 1998، قام ببسط سيطرته على شبكة الإنترنت في روسيا، قبل أن يتبنى، بمجرد وصوله إلى السلطة، عقيدة أمن المعلومات الدفاعية، التي اعتمدت قائمة من التهديدات بما في ذلك التلاعب بالمعلومات ورغبة بعض الدول في السيطرة على مصالح روسيا وتقويضها في الفضاء المعلومات العالمي.
جدير بالذكر أن خصوصية المخابرات الروسية تكمن في إخضاع فضاء المعلومات «للفن العملياتي» الذي يمكن تعريفه بأنه إجراء متعدد الأبعاد يتم ترجمته إلى أهداف عسكرية عملياتية تحددها السلطة السياسية على أعلى مستوى. بهذه الطريقة، يكتسب كل قتال تكتيكي نطاقا استراتيجيا حيث تشترك جميع الأجهزة المعنية في حرب المعلومات (الاتصالات الاستراتيجية التابعة للكرملين والدبلوماسية العامة ووسائل الإعلام الدولية وشبكات نشر الأخبار المزيفة وأجهزة المخابرات والعملاء من أصحاب النفوذ...)
هكذا استغلت أجهزة المخابرات الروسية والصينية قناعة الأنظمة الغربية بأن مضاعفة التبادلات الاقتصادية والثقافية من شأنها أن تشجع التغيير الديمقراطي، حيث تمكن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ووزارة أمن الدولة الصيني من استخدام هذه التبادلات لاختراق المجتمعات الغربية من الداخل والسيطرة على بعض من نخبها وإنشاء شبكات تجسس، مما أدى إلى شنّ حرب إعلامية خفية بشراء الصفحات الإعلانية وإفساد النقاش العام من خلال استراتيجيات التأثير السرية. وبالتالي أصبحت وسائل الإعلام هي ساحة المعركة الرئيسية في حرب المعلومات العالمية وأصبحت العمليات الرقمية الأكثر تطورا تهدف إلى إحداث تأثيرات في الوسائط التقليدية.
إن التحدي الأكبر في مجال حرب المعلومات يكاد ينحصر في التأثير على مفاهيم الرأي العام وإعادة تشكيله. من هنا اهتمت الأطراف الفاعلة بالإنتاج الإعلامي خارج حدودها، من ناحية، من خلال اللجوء إلى الاتصالات الاستراتيجية والدبلوماسية العامة، ومن ناحية أخرى، من خلال العمل السري لأجهزتها الاستخباراتية في إقحام قصص مسرودة تخدم مصالحها ضمن سلسلة إنتاج المعلومات في مجتمع العدو.
الا أن تأثير هذه المعركة على الرأي العام بدت غير متكافئة، لأنه من الصعب للغاية على الأنظمة الديمقراطية التأثير على وسائل الإعلام التابعة للأنظمة الاستبدادية التي تخضع لرقابة مشددة، في حين يكون من السهولة بمكان على الأنظمة الدكتاتورية التأثير على المجتمعات المفتوحة، التي تتمتع وسائل إعلامها بحرية ولا تخضع لرقابة صارمة حيث يمكن الوصول بسهولة إلى سوق المعلومات لديها من خلال شراء وسائل الإعلام أو إفساد الصحفيين أو ببساطة من خلال استغلال خصائص العمل الصحفي ذاتها.
ختاما:
هذا المقال هو محاولة منا للوقوف على رؤية دافيد كولون مؤلف كتاب «حرب المعلومة» حول كيفية إدارة الأطراف الفاعلة للحرب المعلوماتية التي لم تتهيأ لها كثير من الأمم والتي أصبحت تشكل تهديدا لسيادة بعض منها. نعتقد أن القارئ أصبح الآن على دراية بأن حرب المعلومات ما هي الا لعبة تمارسها الأطراف الفاعلة للتأثير على الآخر في ظل الانتشار الواسع لمنصات الإعلام الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي وأن اللجوء الى هذه الحرب ما هي الا وسيلة استراتيجية تستخدمها الأطراف الفاعلة لأسباب هجومية أو دفاعية.
** **
- د. أيمن منير