الصورة الفنية من مرتكزات النقد لأنها تكشف النص الأدبي وتحقق وظيفته الجمالية، فهي وسيلة الشاعر في نقل فكرته وعاطفته إلى قرائه وقد اختلف النقاد حول مفهوم الصورة قديماً كالفارابي والجاحظ وقدامة بن جعفر وأبوهلال العسكري، فمنهم قال إنها المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة، وأنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تشكيل الصورة مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة ويتضح من مفهوم الصورة عند هؤلاء النقاد أنها مجموعة الملامح المرئية التي يجسد الشاعر من خلالها معانيه المجردة والناقد العربي الوحيد عبد القاهر الجرجاني من بين هؤلاء النقاد القدماء الذين توصلوا إلى بلوغ بعض أسرار الصورة والكشف عن أثرها ودورها، لكن الشعر العربي القديم قام بتقييد حرية الشاعر وألزمه بتصور معين وأغفله عن حقيقة شخصية الإنسان الذى يستخدمها ومزاجه ومقاصده، وهنا اجتهد النقاد المحدثون في وضع حدود ومفاهيم للصورة الفنية، منهم الناقد الغربي دي لويس سيسل ومصطفى ناصف والدكتور علي البطل والدكتور عبد الإله الصائغ بأنها تشكيل لغوي يكونها خيال الفنان يستحضر الهيئة الذهنية والمعاني بصياغة جديدة فتكشف عن العالم الداخلي للشاعر أثناء معايشته لواقعه وما يشعر به القارئ ويتذوقه، وأنها ليست مجرد صورة أبلاهـا التداول وأنضبها الاستعمال فلا يتذوقها إلا عن طريق تفاعله مع عناصرها وتأمله فيها تأملاً يثير خياله ويحرك فيه كوامن شعوره فالشعر قائم على الصورة منذ أن وجد حتى اليوم لأنها من عناصر التعبير الفني ووسيلة أصيلة لنقل الإحساس إلى العمل الفني والعمل ليس على نية المتكلم بل توجيـه معـاني ألفاظه وأساس الصـورة الخيال، فالصورة ابنة الخيال الشعري لأنه أهم عناصر العمليـة الشـعرية والشاعر كطائر طليق يحلق في سماء الخيال وينشد الحرية في فنه ويحمل القارئ إلى أجواء خيالية غير الأجواء التي يعيشها يبعث النشاط ولذة الفكر ويجعل ذهن الإنسان دائم الحركة والنشاط كلما قرأ الصورة وجد فيها شيئاً جديداً وروحاً أخرى فهي متأصلة في الشعر منذ أن وجد التشبيه والاستعارة والكناية. وأول نمط تصويري يظهر في أشعار العربي القديم التشبيه حيث تفنن الشاعر في صوره وضمنها أفكاره وأحاسيسه ومشاعره فى تشكيلات حية بعيدة عن الجمود وتخالط الوجدان والمشاعر، ويمثل عنده مركز الثقل ونجده لوناً بارزاً ومقوماً أساسياً من مقومات العمل الفني وعنصراً من عناصر الصناعة في العر بل إن بعض قصائد الشاعر العربي القديم تكثر فيها التشبيهات وتتلاحق حتى تتحول الأبيات إلى صفوف متتابعه من التشبيه وكان علماؤنا يقولون أحسن الجاهلية تشبيهاً امرؤ القيس وأحسن أهل الإسلام تشبيهاً ذو الرمة . فمن الصورة البلاغية الآتي:
* التشبيه كان ملازماً لجميع الشعراء وكثيراً ما نجد الشاعر دائم الترحال والسفر ويعاني فيه الكثير يقول:
ظلِلنا نُقلُّ الأرضَ وهيَ تُقلُّنا
مَهامهَ نأى عن هوانا قَعودُها
علينا أهابيُّ التُّراب كأنَّنا
أناسِيُّ موتَى شُقَّ عنها لُحودُها
أكثر الشاعر من الحديث عن التعب والمعاناة في سفره الدائم لهروبه من اليأس لأن السفر قرين الصمت، والصمت إقرار بالهزيمة والرضوخ والأرض تقلهم وهم يقلونها والغبار علي وجوههم وثيابهم فصاروا كالأشباح التي بعثت من القبور، وهذه الصورة غنية بالحركة والاستمرارية وذلك باستخدامه للفعل وتكراره (ظللنا - نقل - تُقلنا) وكذلك أتى بصورة الموتى تحديداً ليعبر عن صدق موقفه من الحياة والأحياء ودليل على قسوة الواقع الخارجي وسوء حالهم وما آلوا إليه ثم جاء بالصورة الغنية يقول:
وَجَدتُ بها وَجدَ المُضِلِّ بَعِيرَهُ
بمَكَةَ وَالحُجّاجُ غادٍ ورَائحُ
وَجَدتُ بها مَا لَم تَجِد أُمُّ وَاحِدٍ
بِوَاحدِها تُطوَى عليهِ الصَّفائحُ
جاء بالصورة الفنية الغنية بمواقف العشق والحب الوفيرة والثرية بالشحنات العاطفية التي تضمنتها الصورتان الأولى نراه هائماً فيها باحثاً عنها كمن يهيم عندما يضل بعيره في أيام أدي مناسك الحج والثانية حبه الشديد لها أكثر من وجد امراة فقدت وحيدها الذى طوته صفائح القبور وفى صورة أخرى نجد الشاعر يقول:
كأَن فُؤادي صَدع ساقٍ مَهيضَة
عَنيفٌ مُداويها بَطيءٌ جُبُورَها
فإن حَزَمُوها بالحبائر أوجعت
وإن ترُكوها بَتَّ صَدْعاً كَسيرهَا
لمزيد من تسليط الضوء على الصورة في الأبيات وحال قلب الشاعر عندما يتحول إلى مسرح من الأحداث ومن خلال تصويره لفؤاده بساق مكسورة قد انتكست وطال وجعها فإن ربطوها بالجبائر أوجعت صاحبها وإن تركوها بقى الكسر فيها. ومع الليل واستحضار الذكريات يقول الشاعر:
أَلا رُبَّ ضَيفٍ لَيسَ بِالضَيفِ لَم يَكُن
لِيَنزِلَ إِلّا بِامرِئٍ غَيرِ زُمَّلِ
أَتاني بِلا شَخصٍ وَقَد نامَ صُحبَتي
فَبِتُّ بِلَيلِ الآرِقِ المُتَمَلمِلِ
فَلَمّا رَأَيتُ الصُبحَ أَقبَلَ وَجهُهُ
عَلَيَّ كَإِقبالِ الأَغَرِّ المُحَجَّلِ
رَفَعتُ لَهُ رَحلي عَلى ظَهرِ عِرمِسٍ
رُواعِ الفُؤادِ حُرَّةِ الوَجهِ عَيطَلِ
وهنا يأتي الشاعر بصورة الليل هذا الوقت المعروف بأنه وقت النوم والراحة لكنه عند الشاعر وقت استحضار الذكريات وهو يململ في فراشه ولا يستطيع النوم ويتمنى طلوع الصبح وينتظره حتى يطل عليه ليخلصه من ذكرياته فيقبل على الشاعر إقبال أغر والليل رمز للهموم والأحزان ثم يأتي الفجر بعده ليدل على توقه الأمل وانزياح الأحزان فالصبح يمثل الأمل والحياة دائما.
* الكناية نمط تصويري هي لفظ أطلق وأريد به غير معناه الذي وضع له مع جواز إرادة المعنى الأصلي لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته. وكنى الشاعر عن التفكير والتأمل بلقط الحصى في الأرض يقول:
عَشِيَّةَ ما لي حيلَةٌ غَيرَ أَنَّني
بِلَقطِ الحَصى وَالخَطِّ في التُربِ مولَعُ
أَخُطُّ وَأَمحو الخَطَّ ثُمَّ أُعيدُهُ
بِكَفّي وَالغِربانُ في الدارِ وَقَّعُ
وهنا نلاحظ أن هذا الفعل الحركي في خط الحصى ومحوه نوع من التفكير والتأمل فهو فعل لا إرادي يحدث مع غالبية البشر عندما يذهب خيالهم وأفكارهم بعيداً وهنا أراد المدة الطويلة التي أخذها في التأمل والتفكير.
* التشكيل المجازي إن المجاز إلى جانب التشبيه والاستعارة والكناية ركنٌ مهم من أركان بناء الصورة والعرب كثيراً ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها ومن الأمثلة على المجاز المرسل يقول الشاعر:
إِلى كُلِّ دَيّارٍ تَعَرَّفنَ شَخصَهُ
مِنَ القَفرِ حَتّى تَقشَعِرَّ ذَوائِبُه
فالذوائب تقشعر وهي تنوب في ذلك عن صاحبها الذي يقشعر أيضا فلا يعقل أن تقشعر الذوائب دون أن يقشعر باقي الجسد ولكنه أراد أن يركز عدسته الفنية فيلتقط جزءا من الصورة يعكس من خلاله رؤية فنية فالذوائب التي تنفصل عن الجسد ولا تظهر حركة الانفعال عليها كانت محور الصورة واستطاع الشاعر بتجاوزه الفني عن الجسد إلى الذوائب أن يقدم عمقا في المعنى ودقة في التعبير لا يمكن الوصول إليهما دون الاعتماد على المجاز.
** **
- د. شعبان مرسي