محمد بن أحمد بن جبير الكناني البلنسي المشهور بابن جبير، ولد ببلنسية بالأندلس سنة 539هـ، وسمع في نشأته من أبيه وعلماء موطنه، ودرس الفقه، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرًا، وعمل في دواوين حاكم غرناطة زمنًا.
رحل من غرناطة في 29 شوال 578هـ، وركب البحر في سفينة لبعض أهل جنوة قاصدًا الإسكندرية، ومر في طريقه بجزيرتي صقلية وكريت ونزل بالإسكندرية واتجه إلى القاهرة ومنها إلى قوص بصعيد مصر، ومنها إلى عَيْذاب على البحر الأحمر إلى جدة، وقصد من فوره مكة، وأدى فريضة الحج، وزار القبر الشريف بالمدينة، ثم اتجه إلى الكوفة فبغداد فالموصل وبلدانه. وهو في كل تلك البلدان يمكث بعض الوقت ويدوِّن ما شاهده فيها من مساجد ومدارس وغرائب وأمور، ونزل الشام وكان لحملات الصليبيين فيها مستعمرات آنذاك، فجاس خلال ديارهم وسجَّل كثيرًا من أحوالهم. وركب البحر الأبيض المتوسط من عكا على سفينة مسيحية عائدًا إلى الأندلس، ومرت السفينة بصقلِّية فنزل فيها وتجوّل في بلادها، ورجع إلى السفينة، وأبحر ونزل منها في قرطاجنة بساحل الأندلس في 15 محرم سنة 581هـ.
ورحلة ابن جبير تَقُصُّ ما شاهده في بلدان المشرق التي زارها ونزل بها على صورة مذكرات يومية، ومع كل بلدة وكل مشهد يدوِّن التاريخ باليوم والشهر، ويبدو أنه كتبها في أوراق منفصلة، وكأن الموت عاجله قبل أن يجمعها نهائيًا، فجمعها بعض تلاميذه ونشرها بعد وفاته باسم «تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار». وآثر من نشروها في العصر الحديث من المستشرقين والعرب أن يُطلقوا عليها اسم: «رحلة ابن جبير».
والرحلة مكتوبة بأسلوب مرسل فيه الكثير من السهولة والسلاسة والعذوبة، كما في وصفه لجزيرة صقلية وجزيرة كريت وتصويره للإسكندرية حين نزلها ومبانيها وأسواقها وشوارعها ومنارتها العجيبة التي على البحر، وما بها من المساجد والمدارس وبيوت طلاب العلم. ويقول إنه بمجرد أن ينزل بها طالب العلم من أي قطر من الأقطار النائية يجد مسكنًا والعالِم الذي يدرس عليه والراتب الذي يرتفق به.
وينزل ابن جبير القاهرة، ويصف القلعة والأهرام وأبا الهول، ويرسم مشهد الحسين حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم في لوحة باهرة. ويطيل في وصفه للمارستان (المستشفى) بالقاهرة وما به من خزائن الأدوية والأسرَّة كاملة الكسوة للرجال وما اتُّخذ فيه من قسم خاص بالنساء، وقسم على مقاصيره شبابيك من حديد للمجانين.
ويذكر ابن جبير في رحلته نزوله في قوص وهي من بلاد الصعيد، ويصف الحياة فيها بشكل مفصل، وبساطة أهلها، كما يصف مدينة عَيْذاب على البحر الأحمر ويقول إن في بحرها جزائر بها مغاصات للؤلؤٍ نفيس.
ويركب ابن جبير البحر من عَيْذاب إلى جدة، وينزل مكة، ويرسم المسجد الحرام في لوحة باهرة، تجمع كل تفاصيله بأركانه وأبوابه وكل ما يغشى جوانبه من ذهب وفضة وستور حريرية وما به من مقام إبراهيم المغطَّى بالفضة ومن حوائط رائقة الترصيع والتجزيع وقبابٍ بديعة وأعمدة بديعة التركيب.
ويشغل وصف المسجد الحرام وتفاصيله كثير من ما دونته رحلته، ولا يترك شيئًا في المسجد الحرام ولا في ظاهره وسطحه إلا دوَّنه.
ويصف في لوحات باهرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كما أبدع في وصف المسجد الحرام من قبل. منها ما ذكره من وصف بديع للروضة الشريفة وهي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والمنبر الشريف، ويقول ابن جبير: «الروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية مما يلي الشرق.. وشكلها عجيب لا يكاد يتأتَّى تصويره ولا تمثيله، وجميع سعتها من جميع اتجاهاتها مئتا شبر واثنان وسبعون شبرًا، وهي مؤزَّرة بالرخام البديع النحتْ، الرائع النعتْ، وينتهي إزار منها إلى نحو الثلث أو أقل يسيرًا، وعليه من الجدار المكرَّم ثلثٌ آخر قد علاه تضميخُ المسك والطيب، والذي يعلوه من الجدار شبابيك عودٍ متصلة بالسَّمْك الأعلى، لأن أعلى الروضة المباركة متصل بِسَمْك المسجد. وإلى حيِّزِ إزار الرخام تنتهي الأستار، وهي لازَوَرْدِية اللون.. وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي صلى الله عليه وسلم مسمارُ فضة، هو أمام الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام، وإلى قدميه صلى الله عليه وسلم رأسُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورأس عمر الفاروق مما يلي كتفي أبي بكر رضي الله عنهما، فيقف المسلم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم فيسلِّم، ثم ينصرف يمينًا إلى وجه أبي بكر، ثم إلى وجه عمر. وأمام هذه الصفحة المكرَّمة نحو عشرين قنديلًا معلَّقة من الفضة، وفيها اثنان من الذهب. وعن يمين الروضة المكرَّمة المِنْبَرُ الكريم، ومنه إليها اثنتان وأربعون خُطوة، وهو مرخَّم كله، وارتفاعه نحو القامة أو أَزيَد، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خُطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشبَّاك مُقفل، يُفتح يوم الجمعة، وطوله أربعة أشبار ونصف، والمنبر مُغشًّى بعود الآبنوس، ومقعد الرسول صلى الله عليه وسلم من أعلاه ظاهر، قد طُبِّق عليه بلوح الآبنوس غير متصل ب ه يصونه من القعود عليه، فيُدْخِل الناس أيديهم إليه ويتمسَّحون به تبركًا بلَمْسِ ذلك المقعد الكريم».
ويستفيض ابن جبير في وصف المسجد النبوي وقبلته وما على جدارها من الفسيفساء بتصوير بارع دقيق، ويذكر أن المؤذن الراتب فيه من أحفاد بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصف مشاهد المدينة بكل تفصيل واستفاضة.
ويذهب ابن جبير من المدينة إلى الكوفة، ومنها إلى بغداد، ويصوِّر بعض المجالس العظيمة لعلمائها ووعَّاظها وخاصة ابن الجوزي إمام عصره في الحديث والوعظ، وفي وصف إحدى مواعظه يقول: «أتى فيها برقائق من الوعظ وآياتٍ بيناتٍ من الذكر طارتْ لها القلوب اشتياقًا، وذابتْ بها الأنفس اختراقًا، إلى أن عَلا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفَرَاش على المصباح، فشاهدنا هَوْلًا يملأ النفوس إنابةً وندامة، ويذكِّرها هولَ يوم القيامة، فلو لم نركب ثَبَجَ (وسط) البحر، ونعتسف مفازات القفر إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهةَ المُفلحة الناجحة».
ويصف ابن جبير بغداد ومساجدها ومبانيها وأسواقها ومحالَّها، ويذكر ويفصّل فيها وفي أهلها وشؤونهم وأعمالهم، ويذكر بشكل بارع أدق تفاصيل بغداد ونواحيها.
ويغادر ابن جبير بغداد إلى الموصل ويسترسل في وصفها ووصف مبانيها وأسواقها ومساجدها، ثم يصل إلى حلب، وتروعه مبانيها وقلعتها وجامعها والمدرسة الملحقة به وكأنهما في الحُسن روضة تجاور أخرى.
ثم يصل ابن جبير إلى دمشق جنة المشرق، وتروعه بساتينها المحدقة بها إحداق الهالة بالقمر، وما يمتد بشرقيِّها من غوطتها الخضراء بحللها السُّندسية البديعة، ويُشيدُ بحُسنها، ويقول صدق القائلون عنها: «إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تُسامِتُها (تقابلها) وتُحاذيها». ويطيل الوصف لمسجدها الأموي العظيم وما به من مقاصير وغرائب التصاوير. ويُفيض الحديث عن مشاهد دمشق وأسواقها ومدارسها ومارستانها وما بها من خانقاهات تكيّات وزوايا للمتصوِّفة.
وأشاد بأعمال صلاح الدين الأيوبي بالشام، كما أشاد بها في الإسكندرية والقاهرة، وأشاد بانتصاراته على الصليبيين وتغلغله في ديارهم، ولاحظ أن تجارهم وتجار المسلمين يغدون ويروحون في الدارين دون أي اعتراض، والحرب مع ذلك قائمة بين الفئتين والتجَّار في عافية.
ويُبحر ابن جبير من ميناء عكا مع التجار النصارى في إحدى سفنهم المُعدَّة لسفر الخريف، وكانت متجهة إلى مسِّينة في صِقِلِّية، ونزل بصِقِلِّية وتجوَّل في بلدانها، وكان المسلمون قد فتحوا تلك الجزيرة في مطالع القرن الثالث الهجري وعرَّبوها لمدة قرنين ونصف ثم احتلها النورمان، وكان ملوكهم الأولون يحتضنون الثقافة العربية ويَرْعَوْنَ علماءها، ويجلسون منهم مجلس التلاميذ، مما أتاح لصقلِّية حينئذٍ أن تصبح مجازًا لعبور الثقافة العربية الإسلامية إلى أوروبا وخاصة في عهد «روجر الثاني» وابنه «غليوم» اللذَين طبعا حياة الدولة في أيامهما بالطوابع العربية الإسلامية، ويُصوِّر ذلك ابن جبير في رحلته عن «غليوم» الذي زار الجزيرة في عهده، فيقول عنه: «هو كثير الثقة بالمسلمين، وساكنٌ إليهم في أحواله والمهِمِّ من أشغاله، حتى إن الناظر في مطبخه رجلٌ من المسلمين.. من عجيب شأنه المُتَحَدَّث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته في أول رسائله (الحمد لله حقَّ حمده) وكانت علامة أبيه (الحمد لله شكرًا لأنعمه). وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عِمالته في ملكه فهم مسلمون، ما منهم إلا من يصوم تطوُّعًا، ويتصدق تقربًا إلى الله وتزلُّفًا، ولهم في فعل الجميل أخبارٌ مأثورة». وتعد هذه وثيقة تاريخية مهمة فيما كان من تعاون بين النورمان النصارى والمسلمين في أيام ملوكهم الأولين بصقلِّية.
ويتنقَّل ابن جبير في الجزيرة (صقلِّية)، ويذكر عن نساء النصارى في «بالرم» العاصمة أنهن كن يلبسن نفس زيِّ المسلمات ويتحجَّبن مثلهن منتقباتٍ بالنُّقُب الملونة كما يتزيَّنَّ على طريقتهن، ويقول إنهن فصيحات. ومع ذلك كله يقول ابن جبير إن راية الإسلام ستُنَكَّسُ هناك وسيُصبح كل ما للمسلمين من مساجد وغير مساجد هناك أثرًا بعد عين، وصدق حَدْسُه.
وقد أبحر من صقلِّية إلى قرطاجنة على الشاطئ الأندلسي ومنها إلى غرناطة، والرحلة بحق ممتعة سواء بأسلوبها الأدبي المرسل البليغ، أو بملاحظات ابن جبير الدقيقة المتنوعة.
ولابن جبير رحلتان بعد هذه الرحلة الشهيرة، حجَّ في كل منهما، والسبب في أولاهما أنه سمع بفتح صلاح الدين لبيت المقدس سنة 583هـ واسترداده من أيدي الصليبيين، فحدثته نفسه أن يزور تلك الأماكن وعَلَم الإسلام يُرفرف عليها، وارتحل لذلك سنة 585هـ وعاد سنة 587هـ إلى غرناطة وسكنها ثم سكن مَالَقَة ثم سبتة منقطعًا إلى إسماع الحديث النبوي وروايته.
ورحل رحلته الأخيرة لأداء الحج وجاور مكة فترة، ثم ارتحل إلى الإسكندرية وأدركته المنيَّة فيها سنة 614هـ رحمه الله، ويقول الدكتور شوقي ضيف: ويغلب أن يكون مسجد سيدي جابر بها مسجده، وأن تكون العامة حرَّفت اسمه مع الزمن.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد